قُرَّاء مجاهدون - جمعية مركز الإمام الألباني للدراسات والأبحاث

قُرَّاء مجاهدون

  • محمد موسى نصر
  • 27/06/2018
  • 844

هذه مقالةٌ في بيان القراء الذين جمعوا بين القراءة وجهاد الأعداء والمرابطة على الثغور، ولم يمنعهم الإقراء -على ما فيه من أجر وثواب- من القيام بفريضة الجهاد.
ومع قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه)) [رواه البخاري]، لم يمنع ذلك أهلَ القرآن من الجهاد في سبيل الله؛ أن الناس أُمروا جملةً أن ينفروا؛ خفَّت عليهم الحركة أو ثقُلت.
والقراء هم أهل الله وخاصته، وهم يعيشون مع آيات القرآن صباحَ مساءَ تمرُّ بهم آيات الجهاد فتشحذ هممهم، وتقوي عزيمتهم، وتدفعهم إلى الجهاد والرياضة وحب الشهادة(3).
ومن ذلك قوله -تعالى-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، وقولُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}، وقولُهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، وقولُهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وقولُهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
وأما الأحاديث؛ فكثيرة جداً منها:
عن أنس -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)) (4).
وقد كان السلف يتسابقون على الجهاد والغزو شباباً وشيوخاً قراءاً ومحدثين وفقهاء وقضاة.
فهذا سعيد بن المسيب: خرج إلى الغزو -وقد ذهبت إحدى عينيه-، فقيل له: إنك عليل، فقال: ((استنفر اللهُ الخفيفَ والثقيلَ، فإن لم يمكنني الحرب كثَّرت السواد، وحفظت المتاع)) (5).
والقراء ضربوا بنصيبٍ وافر من الجهاد؛ فكانت هذه الرسالة من جملة كنوز كتاب ((غابة النهاية في طبقات القراء)) لابن الجزري.
الرباط في الأندلس:
(ج1/23/97) إبراهيم بن محمد بن بازي أبو إسحاق بن القزاز الأندلسي ثقة، قرأ على عبدالصمد بن عبدالرحمن صاحب ورش، وسمع منه كتابه الذي جمعه في قراءة نافع وحمزة، قرأ عليه أصبغ بن مالك، خرج مرابطاً إلى مجريط بالأندلس، فتوفي في رجوعه منها بطليطلة سنة أربع وتسعين ومائتين.
من مات في الأسر:
(ج1/128،128،604) أحمد بن محمد بن محمد أبو جعفر القيسي القرطبي، ويقال له: أبو حجة صالح خيِّر، أخذ القراءات عن أبي القاسم بن الشراط وكان من العابدين، مات في الأسر عن بضع وسبعين سنة، على حدود سنة خمس وثلاثين وست مئة.
عُذِّب حتى الموت:  
(ج1/136/643) أحمد بن محمد(6) أبو جعفر القيسي القرطبي مقرئ نحوي ماهر قرأ على أبي الحسن بن الشراط، وبرع فاختصر ((التبصرة)) لمكي وألَّفَ في النحو كتاباً وتَصَدَّر بقرطبة، فلما أخذت انتقل عنها، ثم ركب في البحر فأُسر وعُذِّب حتى مات سنة ثلاث وأربعين وست مئة -رحمه الله-.
تحمّل الأذى في الجهاد:
(ج1/168/782) إسماعيل بن محمد بن علي بن عبدالله بن هانئ الأندلسي الغرناطي شيخنا الإمام العلامة قاضي القضاة شرف الدين أبو الرشيد المالكي ولد سنة عشر وسبع مئة بغرناطة، أخذ القراءات عن القيجاطي، اشتغل عليه الناس وانتفعوا به كثيراً على لُكنةٍ من لسانه لا يعرف كلامه إلا من أكثر ملازمته بلغني أن ذلك من ضربة وقعت في رأسه في الجهاد، مات بالقاهرة سنة سبعين أو إحدى وسبعين وسبعمئة.
مَن توفي غازياً:
(ج1/288/279) زائدة بن قدامة أبو الصلت الثقفي، عرض القراءة على الأعمش، وعرض عليه الكسائي، وكان ثقة حجة كبيراً صاحب مسند، توفي بالروم غازياً سنة إحدى وستين ومئة.  
من شهداء اليمامة:
(ج1/301/1318) سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة أبو عبدالله الصحابي الكبير، وردت عنه الرواية في حروف القرآن، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خذوا القرآن من أربعة عبدالله بن مسعود وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة -رضي الله عنهم-)).
استشهد يوم اليمامة في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة -رضي الله عنه-، وقد روى عنه ابن أبي الدنيا حديثاً واحداً في كتاب ((أهوال يوم القيامة)) ولا أعلم له غيره.
مَن قُتل شهيداً مقبلاً غير مدبر:
(ج1/316/1390) سليمان بن موسى بن سالم أبو الربيع الكلاعي الأندلسي الحافظ خطيب بلنسية.
قال الذهبي: تلا بالسبع على أصحاب ابن هذيل، ولم يتفرغ للإقراء، له تصانيف نافعة وبلاغة وفضائل، قتل شهيداً مقبلاً غير مدبر في ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وست مئة وله سبعون سنة.
قال ابن الجَزَري: روي ((تلخيص)) أبي معشر عن أبي عبدالله بن حميد سماعاً، وسمعه منه الرضى محمد بن علي بن يوسف الشاطبي وروي ((التيسير)) قراءة على ابن زرقون.
من غزا الروم سبعين سنة:
(ج1/349/1499) عامر بن سعيد بالتصغير، ويُقال: له -أيضاً-: سعير بالراء، أبو الأشعث الجرشي نسبته إلى الجرش قرية لمصر، المِصِّيصي نزلها لأجل الغزو، قال السداني: كان خيِّراً فاضلاً بلغ المائة في سنه وزاد عليها، وغزا الروم سبعين سنة، أخذ القراءة عرضاً عن ورش، روى القراءة عنه محمد بن عبدالرحيم الأصبهاني، وقال: قرأت عليه بالمصيصة في المسجد الجامع، وكان يقول: قرأت على ورش فختمت عليه ختمتين وشرعت في الثالثة، فمات.
مَن غزا مع أمير المؤمنين معاوية -رضي الله عنه-:
 (ج1/443/1580) عبدالله بن قيس أبو بحرية السكوني الكِنْدي الحمصي صاحب الاختيار في القراءة تابعي مشهور، قرأ على معاذ بن جبل وروى عنه وعن عمر بن الخطاب، روى القراءة عنه يزيد بن قطيب وحدَّث عنه خالد بن معدان، ويونس ابن مَيْسَرة، وكان يلي غزو الصائفة لمعاوية وبقي إلى زمن الوليد، وأظنه مات بعد الثمانين، والله أعلم.
شهيد صائم مظلوم:
(ج1/507/3100) عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبدشمس بن عبدمناف بن قصي أبو عبدالله وأبو عمرو القرشي أمير المؤمنين ذو النورين أحد السابقين الأولين، وأحد من جمع القرآن حفظاً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعرض عليه، عرض عليه القرآن المغيرة بن أبي شهاب المخزومي، وأبو عبدالرحمن السلمي، وزر بن حُبَيش، وأبو الأسود الدؤلي، كان أصغر من النبي صلى الله عليه وسلم بست سنين، قتل شهيداً مظلوماً في داره يوم الأربعاء، وقيل: يوم الجمعة بعد العصر وكان صائماً ثامن عشر من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وله اثنتان وثمانون سنة على الصحيح، قاتَلَ اللهُ من قتله، ودُفن ليلة السبت بالبقيع وصلى عليه جبير بن مطعم، قال: لم يشك في هلال رمضان حتى قتل عثمان -رضي الله عنه-.
أفضل شهيد في زمانه:
(ج1/546، 547/3334) علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم الإمام أبو الحسن الهاشمي أمير المؤمنين وأحد السابقين الأولين، روينا عن أبي عبدالرحمن السلمي أنه قال: ما رأيت أقرأ لكتاب الله -تعالى- من علي، وقال -أيضاً-: ما رأيت أقرأ من علي، عرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم.
وأجمع المسلمون على أنه قتل شهيداً يوم قتل وما على وجه الأرض أفضل منه، ضربه عبدالرحمن بن ملجم صبيحة سابع عشر شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة بالكوفة وهو ابن ثمان وخمسين سنة فيما قاله ابنه الحسن -رضي الله عنه- فعلى هذا يكون أسلم وهو ابن ثمان سنين، وقال محمد بن الحنفية: قتل أبي وله ثلاث وستُّون سنة، وكذا قال الشعبي وابن عياش وجماعة، وقيل: ابن سبع وخمسين سنة -رضي الله عنه-.
شهادة الفاروق عمر -رضي الله عنه-:
(ج1/591/3403) عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبدالعُزّى بن رِيَاح ابن عبدالله بن قرط بن رزاح -بتقديم الراء على الزاي- بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي العدوي أمير المؤمنين أبو حفص -رضي الله عنه-، وردت الرواية عنه في حروف القرآن، وقال أبو العالية الرياحي: قرأت القرآن على عمر أربع مرات وأكلت معه اللحم.
استشهد -رضي الله عنه- يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وعشر أيام.
من استشهد في وقعة هولاكو:
(ج2/205/3566) محمد بن علي ابن عبدالصمد أبو منصور الخياط الصغير البغدادي من شيوخ بغداد الحاذقين، ولد سنة إحدى وثمانين وخمسمئة، قرأ بمضمن ((المصباح)) على عبدالعزيز بن الناقد عن مؤلفه وسمع ابن طبرزد وحنبل الرصافي، قرأ عليه بالعشر عبدالله بن علان اليعقوبي، وروى عنه الحافظ الدمياطي، بقي فيما أحسب إلى وقعة هولاكو فاستشهد سنة أربع وخمسين وست مئة.
من شهد الأندلس:
(ج2/211،212/3388) محمد بن علي بن هاني اللخمي السبتي أبو عبدالله الإمام الأستاذ في القراءات، والنحو، والأدب، وفنون العلم، صاحب التصانيف المفيدة، قرأ القراءات والنحو على الأستاذ أبي إسحاق الغافقي وأدرك جماعة من أكابر سبتة، وتوفي سنة أربع وثلاثين بجبل الفتح من ثغور الأندلس شهيداً حين حاصرته الكفار.
من شهداء قرطبة:
(ج2/238/3402) محمد بن محمد ابن أحمد أبو عبدالله الفَرَّيشي -بفتح الفاء وتشديد الراء مكسورة، وآخر الحروف، وشين معجمة- القرطبي، مقرئ زاهد مجاب الدعوة، تلا بالسبع على أبي القاسم بن الشرط، وسمع من ابن بشكو، وحج فسمع بمكة من يونس الهاشمي، وسمع منه ابن مسدي، واستشهد عند استيلاء الفرنج على قرطبة سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
قال جامعُهُ -عفا الله عنه-:
هذا ما تيسر جمعه مما ذكره الحافظ ابن الجزري في ((غايته))، وهو للمثال لا للحصر، ولو أردنا الاستقصاء لكان ذلك سفراً متوسِّطاً، والمقصود الإشارة والتنبيه وحض القراء في زماننا -فضلاً عن غيرهم- أن لا يمنعهم الإقراء من الجهاد الشرعيِّ -بشرطهِ المعتبر-، وخصوصاً وقد وجب الجهاد على المسلمين منذ سقوط الأندلس.
فالله أسأل أن يحيينا سعداء ويُميتنا شهداء مقبلين غير مدبرين، صابرين محتسبين.
يا رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.