وَأُولُــو الْــعِــلْــمِ قَــائِــمــاً بِـالْقِسْــطِ - جمعية مركز الإمام الألباني للدراسات والأبحاث

وَأُولُــو الْــعِــلْــمِ قَــائِــمــاً بِـالْقِسْــطِ

  • علي حسن الحلبي
  • 11/08/2018
  • 679

ذكر الإمامُ ابنُ القيِّم في كتابه العُجاب «مِفتاح دار السعادة» -في هذه الآية- معانيَ رائعةً، واستنباطاتٍ فائقة؛ تحْسُنُ مراجعتها، وإدامة النَّظر فيها.
{ وَأُولُو الْعِلْمِ} المذكورون في الآيةِ الكريمة: هم أهل العلمِ والعدل: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} ؛ لما في أعناقهم من أمانة العلم، وحقيقة العدلِ.
وإنّنا لا نزالُ -والحمد لله ربِّ العالَمين- منذ سنواتٍ تنوف العشرين- نتلقّى عن مشايخنا الصادقين، وكُبرائِنا الواثقين؛ حبَّ العلمِ، وتوقيرَ أهلهِ، وتبجيلَ حملتهِ . . .
حتى كاد منّا -ولله المنّة- قولٌ يتكرّر، وقاعدةٌ تتقرّر؛ ملأْنا بها أسماعَ الناسِ، ونَثَرناها في صفحات كلِّ قِرْطاس؛ وهي قولُنا –بتوفيق ربِّنا-: المسائل الكبار ليس لها إلا العلماءُ الكبار . . .
وإذ نُؤكِّدُ هذه القاعدةَ، ونُثبِّتُها، ونُرسِّخها؛ فإنه لا يخفى علينا –والحمدُ للهِ- التفريقُ الدَّقيق بين (التقدير)، و(التَّقديس):
فإنَّ (تقديرنا) لعُلمائنا ومشايخنا واجبٌ حَتْمٌ، وفرضٌ لازمٌ؛ لا انفكاك لنا منه، ولا بُعْدَ لنا عنه . . .
وهذا التقدير مبعثُه ودوافعُه: المنهج العلميُّ المنضبطُ، الجامع بين العلمِ والحلمِ، والحُجَّة والبُرهان .
وأمّا (التقديسُ): فلا يكونُ إلا لِنُصوص الكمال والعصمةِ؛ من كتابِ الله -تعالى-، وسُنّة رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ فهما الأصلان العظيمان، اللذان لا خلَلَ فيهما، ولا انتقاصَ يعتريهما.
فـ(تقديرُ) العلماءِ قائمٌ على هَيْبَةِ العلمِ وعِظَمِ قَدْرِهِ، و(تقديس) الحقِّ مبنيٌّ على كبير أثرهِ، وجلالةِ مصدرهِ.
فَخَلْطُ الأوراق، واضطرابُ الأولويّات يُفسِد القضيّة، ويُعْظِم البليّة.
وعليه؛ فإنَّ الواجبَ «على كلِّ مسلمٍ موحِّدٍ: النهوضُ بالحقوقِ الشرعيةِ عليه، للعلماء العاملين:
مِن توقيرِهم، وتبجيلهم، وإعطائهم قدرَهم، والكفِّ عن أعراضهم، والوقيعة فيهم، والبُعْدِ عن إثارة التشكيكِ في نياتِهم، ونزاهتِهم، والتَّعسف في حمل تصرفاتهم بالفتيا والقول على محامل السوء، وتَصَيُّدِ المعايب عليهم، وإلصاق التُّهم بهم، والحَطِّ من أقدارهم، والتَّزهيدِ فيهم؛ فإن هذا من أعظمِ وسائلِ الهدمِ، ومواطنِ الإثمِ، وتَفْتِيتِ الأُمة، وإضعاف القيادة العِلميّة.
وما هذه إلا وَخَزاتُ مُرْجِف، وَطُعُونُ مُتَسرِّع، وهي مواقفُ يتشفّى بها مَن في قلبه عِلَّة، وفي دينه رَهَقٌ وَذِلَّة -مِن أهل البدع والأهواء، وغيرهم-؛ فلا تكوننَّ ظهيراً للمجرمين، تخذلُ علمـاء السُّنَّة، وتكونُ -بفعلتك هذه- تذودُ الناسَ عنهم، وعن دُروسهم، وحِلَقِهم، ومآثرِهم، وَتُسْلِمُهُمْ غنيمةً باردةً إلى علماء السوء والبدعة، أو جَعْلِهم همَلاً تتصيَّدُهُم الفِرق، والأحزاب»(1).
وهذا الأثر -السلبيُّ- عينُ ما نُحِسُّ به ونراه، ونلمسُهُ، ونُعايِشُهُ.
وَقَلَّ أنْ تَجدَ مِن أولاءِ الأحزاب -أو مُناصريهم- مَن يعظِّمُ العُلماءَ لحقِّهم، أو ينشُرُ علومَهم لصوابها، أو يدُلُّ عليهم صيانةً للسنةِ ورفعاً للِوائها . . .
فإنْ فعلوا ذلك – أو بعضَه!-:
. . . فاستغلالاً لمواقف . .
. . . أو استثماراً لعواطف . .
أو انتصاراً على مُخالف . . .
وإلا:
فأَين هي فتاوى العُلماء الربّانيِّين في الرّدِّ على الحِزبيّين، والمُهيِّجين، والغوغائِيِّين؟!
وما هي مواقفُ (هؤلاء) منها؟!
وما هي مسالكُهم تُجاهَها؟!
لا تـجدُ فتـاوى هـؤلاء الكِـبار -الكُبّار- من هؤلاء الصِّغار -ذوي الصَّغار- إلا الكَبْتَ، والتَّخْبِئَةَ، والكَتْمَ والاندثار!!
وهذه هي (العُقدة) الأساس: التي يسيرُ من خلالها -ويُسَيِّرها- هؤلاء الناس!
مسلكٌ انتقائيٌّ صِرفٌ؛ ليس الحقُّ باعثَه، ولا الهُدى رائدَه . . .
وإنّما هوىً يهوي بصاحبهِ إلى حُفرة التَّحزُّب والتَّعصُّب؛ إلتفافاً على العُلماء، وتمــريــراً لِما يــرمــون إليه –لتحزُّبِهم!- مِن مهالك الأهواء . . .
«فيا لله كيف تُجعلُ الشرائعُ ذرائع للانتقام، وتقام ضرائرَ من الباطل والآثام؛ لكنها سنة ماضية لمن يحمل عقلاً عبداً لهواه! ويُؤْثَرُ عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- قولـه: «إنَّ للخصومات قحَماً، وإن الشيطان يحضرها».
والقحم: الأُمور العظام، فكيف إذا كانت الخصومة في غير حق؟».(2)
ولهؤلاء (الشبابِ) واجبٌ في أعناق (الشيوخ): قال فضيلةُ الشيخ بكر أبو زيد –سدّده الله- في رسالتِه «الردّ على المخالف» (88):
«ومع هذا الواجب الشبابي من احترام العلماء، والالتفاف حولهم، فواجب على العلماء العاملين: احتضان الشباب، واحتواؤهم، والرَّبط على قلوبهم بوشائج العلم والإيمان، وبهذا يُكوِّنُونَ «رابطةً علْميَّةً شبابيَّة»، تجد فيها «العالم القُدوَة»، و«القيادة العلمية» للأمة، ومصانع لرجال المستقبل، بها يَظْهرون.
ومِن واجب العلماء نحو الشباب: حسن التّعامل معهم، بدقة، وحكمة، وروية: بتوجيههم، والجلوس لهم، بالدَّرس والتلقين، والأخذ عنهم، والتلقي منهم، والكتابة، والتأليف، والفتيا، كلٌّ بما وَسِعَه حتى يحتوي العلماءُ تَوَجُّهاتِ الشباب: العقدية، والسلوكية، سليمة من الانحراف في الفكر، والسلوك».
فهل يتمُّ هذا التَّكاملُ تديُّناً وصدقاً وإنصافاً؟‍‍!
هل تَتمُّ هذه المُواءَمة حقّاً، وأمانةً، وولاءً؟!
. . . هذا ما أرجو -ويرجو كلُّ مُخلصٍ- حتى يظلَّ (العلمُ) في عليائهِ، ويستمرَّ (القِسْط) في جلالِهِ وبهائهِ . . .