حُــبُّ الــرِّئاسَــةِ - جمعية مركز الإمام الألباني للدراسات والأبحاث

حُــبُّ الــرِّئاسَــةِ

  • مشهور حسن آل سلمان
  • 11/08/2018
  • 2021

أسـند الدِّينـَوَرِيُّ في «المجـالسـة» (1830- بتحقيقي) عن الثوري قوله:
«من تصدّر وهو صغير، فاته علم كثير»(1).
والصغير هنا شامل للسِّنِّ والعلم، فمن تصدر قبل أن يتأهل؛ فاته علم كثير، وترتب -في المآل- عليه وعلى من يغترُّ به شرٌّ جسيم.
وقد قرر الشاطبي(2) أن المنسوب إلى البدعة لا يخلو أن يكون مجتهداً فيها، أو مقلداً، وقرر أن المجتهد فيها على أقسام، وأسوأُهم حالاً: المدّعي، فقال عنه: «لم يصح بمسْبَار العلم أنه من المجتهدين، فهو الحريُّ  باستنباط ما خالف الشرع»(3)، وقال مبيناً سبب ذلك:
«إذ قد اجتمع له -مع الجهل بقواعد الشرع- الهوى الباعثُ عليه في الأصل؛ وهو التَّبعية؛ إذ قد تحصل له مرتبة الإمامة والاقتداء، وللنفس فيها من اللذة ما لا مزيد عليه»(3).
والشاهد من هذا النقل: أن حب الرئاسة متمكن في نفس العالم وغيره، بل في نفس من قد يصل لمرتبة الإمامة والاقتداء، ولذا قال الشاطبي عقب الكلام السابق مباشرة ما نصه:
«ولذلك يعسر خروج حبِّ الرئاسة من القلب إذا انفرد، حتى قالوا: حب الرئاسة آخر ما يخرج من رؤوس الصِّدِّيقين! (4) فكيف إذا انضاف إليه من الهوى من أصل، وانضاف إلى هذين الأمرين دليل -في ظنه-شرعي على صحة ما ذهب إليه؟! فتمكن الهوى من القلب تمكناً لا يمكن في العادة الانفكاك عنه، وجرى منه مجرى الكَلَبِ من صاحبه، كما جاء في حديث الفِرَق(5)! فهذا النَّوع ظاهرٌ أنه آثم في ابتداعه، إثم من سَنَّ سُنَّةً سيئة»(6).
ولذا كان من أشراط الساعة ظهور رؤوس الضلال، والذين يتجرأون على الفتيا، ويتصدرون قبل أن يتأهلوا، والجامع بين أشراط الساعة(7) عدم الحصول في زمن السلف، ولذا من قرأ ما نقله ابن القيم في كتابه البديع(8) «إعلام الوقعين»(9) من ذلك؛ يجد عجباً في مقتهم لأنفسهم، وهضمهم لحالهم، وبعدهم عن حبّ الرئاسة، وتحاشيهم من الإقدام على الفتوى.
وقد شكى العلماء قديماً من حال المدّعين للعلم في زمانهم، وأن ذلك كان يظهر على صورة شلل في مجتمعاتهم، وكانوا يصطلحون لئلا يفتضحوا، وهذا نقل واحد(10) يبين ذلك:
قال المعافى بن عمران النهرواني في كتابه «الجليس الصالح الكافي» (4/5-6) -بعد كلام-: «ومما روي عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب إخباره أن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم ويظهر الجهل، وقد فشا هذا الأمر المنكر المذموم في زماننا، وصار الجاهل فيه مقدّماً متبوعاً، والعالم المتقدم في علمه مَقْصِيّاً مقموعاً؛ حتى صار يَتسرَّع إلى الفُتيا في الدين، والحكم بين المسلمين: مَنْ لم يُعنَ بدراسة الفقه، ولم يُعْرَفْ بمجالسة أهله، ولا مجاثاة الخصوم فيما اختلف أئمة الفقه فيه، ومناظرتهم ومجاراتهم ومذاكرتهم،  وسألت هذه الطائفة المضلَّلة المحتقرة المسترذلةُ بعضَ من قد اشتهر طلبه للعلم، ومذاكرته واشتغالـه بالنظر فيه، واتفاق أصحاب له يأخذون عنه، ويرجعون إلى تلخيصه المشكل منه؛ لاختلاط بعضهم ببعض، ومعاشرتهم بعضهم بعضاً، وممالأة كل فريق منهم صاحبه على ما يُؤثره، ووقوف كل حزب منهم على ما يرغب عنه ذو الدين وينكره، فصاروا على الحد الذي قال في أهله مالك بن دينار: افتضحوا فاصطلحوا(11)، وكما قال الشاعر:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم  ..... والمنكرون لكلِّ أمر منكرِ
وبقيت في خَلْفِ يُزَيِّنُ بعضُهم  .....بعضاً ليدفعَ مُعورٌ عن مُعْوِرِ
ولقد بلغني أن رجلاً استفتى بعض أهل زماننا في شيء بينه وبين خصم له، فأفتاه بما فيه حجة له فيما استفتاه عنه، وإنكارٌ على خصمه ما حاول منازعته فيه، فلما ولّى لقيه بعض أنسباء الخصم المستفتى عليه، فأخذ صحيفة الفتيا من يده، وأخبر المفتي أن الذي استفتاه المستفتي فيه هو شيء همَّ الخصومُ فيه، وما أفتى به مما يكرهونه ويستضرُّونَ به، فارتجع الفتيا من صاحبها، وألحق بها ما عاد على فتياه الأولى، فنقضها وَقَلَبها عن جهتها، ولنا في هذا الفصل كلامٌ قد أثبتُّه ووصلتُهُ بأبياتٍ حضرتني، وأودعت ذلك كتابي المسمى «تذكير العاقلين وتحذير الغافلين»؛ والأبيات:
تـَسَـــالَمَ القَـوْمُ لــمَّـا ....... عـادَوْا دعـاةَ السَّـلامَهْ
تفاســـدوا ثــمَّ أَبــدوا   ....... صُلْحاً بغـيْر استقامَهْ».
ومآل المتصدر وهو صغير؛ لا يقتصر على فواته العلم الكثير-كما قررنا-، وإنما يتعداه إلى شرٍّ مستطير، وهذا الشر أول ما يصيب صاحبه، ولذا قال عبد الحميد الميموني: «ربما رأيت الحجاج بن أرطاة يضع يده على رأسه، ويقول: «قتلني حبُّ الشّرف»(12).
وهولاء المقتولون بحبّ الشّرف: يَغرُّهم ستر الله عليهم فترة، ويزيد عندهم الداءُ بحبهم المدح والثناء، وعيشهم في فراغ وهباء، دون عناية بحقيقة حالهم ومقدار جهلهم!
قال محمد بن واسع: «إن مِن النّاس ناساً غَرَّهم السَّتْرُ، وفتنهم الثناء، فإنْ قدرتَ أن لا يغلب جهلُ غيرك بك علمك بنفسك؛ فافعل»(13).
وقال الخطيب في  «الجامع» (1/ 321): «كان يقال: من طلب الرياسة؛ وقع في الدياسة».
قلت: يقال: داس فلاناً دياسة: أذله، أو وطئه برجله.
وأسند الصيمري في «أخبار أبي حنيفة وأصحابه» (42)- وعنه الصالحي في «عقود الجمان» (ص302)- عن زفر عن أبي حنيفة قال: «من طلب الرئاسة قبل وقتها عاش في ذُلٍّ».
قال أبو عبيدة: صدق والله، وقد عاينتُ ذلك في كثير من المتصدرين غير المتأهلين، وفي عدد من المستعجلين الحاسدين، فأخذوا يناطحون بلا قرون، فالتحصيلُ قليلٌ، والبضاعةُ مزجاةٌ، والنفوسُ ذليلةٌ، والألسنةُ طويلةٌ، دون أداء حقِّ الله من النّصيحةِ، وإن لم تصدِّقني، فتفقد!
لو كنتَ تعلم ما أقولُ عذرتني   .... أو كنتُ أعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلتَ مقالتي فعذلتني  ....... وعلمتُ أنك جاهل فعذرتكا
يا هذا! تواضع ولا تتحامق ولا ترتفع! اعرف حقّ أساتيذك ومعلِّميك، وتذكر ما أسنـده الخـطيب في«الجامـع» (708) عن شعيب  بن حرب: «من طلب الرئاسة؛ ناطحته الكباش، ومن رضي بأن يكون ذنباً؛ أبى الله إلا أن يجعله رأساً».
والذي نفسي بيده؛ لو أن الأمة جميعها -إنسها وجنها، صغيرها وكبيرها، عالمها وجاهلها- أرادت أن ترفع من وضع اللهُ ما استطاعت، ولو أنها أرادت أن تضع من رفع اللهُ ما قدرت، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حقٌّ على الله -عز وجل- أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه»؛ أخرجه البخاري (2871، 6501) وغيره.
قـال ابن القيـم في «الفـروسـية» (91- بتحقيقي): «قلت: تأمل قوله: «من الدنيا»، فجعل الوضع لما رفع وارتفع، لا لما رفعه سبحانه؛ فإنه سبحانه إذا رفع عبده بطاعته، وأعزه بها؛ لا يضعه أبداً» انتهى.
قلتُ: وحبُّ الرئاسة من الدنيا بلا شك؛ لأن سببها العُجبُ، وصدق من قال: «العجب يهدم المحاسن»، و«إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله»، و«لا ترى المعجب إلا طالباً للرئاسة » قال أبو نعيم: «والله ما هلك من هلك إلا بحب الرئاسة»، وقال فضيل بن عياض: «ما من أحد أحبَّ الرئاسةَ إلا حَسَدَ، وَبَغى، وتتبَّع عيوب النّاس، وكره أن يُذكر أحدٌ بخير»، نقلها ابن عبد البر في «الجامع» (2/ 571).
قال أبو عبيدة: يا هذا! اتهم نفسك لتنجو؛ وإلا فأنت على خطرٍ عظيمٍ، ولا تحسبنَّ نفسك بمعزل عن هذا الداء، ولا نجاة فيمن هذا شأنه، ولذلك قالوا: «حبُّ الرئاسة آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين»، وصدقوا، أفاده الشاطبي في «الموافقات» (2/ 334- بتحقيقي).
المالُ آفتُهُ التبذيرُ والنَّهْبُ   .... والعلمُ آفتُهُ الإعجابُ والغَضَبُ
 وقال أبو العتاهية:
حُبُّ الرئاسةِ أطغى مَنْ على الأرضِ   .....حتى بغى بعضُهم فيها على بعضِ
 وقال بكر بن حمد:
تغاير الناسُ فيما ليس ينفعُهم    ...... وفــرَّقَ النـاسَ آراءٌ وأهـواءُ
 وقال ابن عبد البر:
حبُّ الرئاسةِ داءٌ يحلق الدينا ...... ويجـعل الحقَّ حرباً للمحبّينا
يفري الحلاقيم والأرحام يقطعها ..... فـلا مـروءة تبقـى ولا دينا
مَنْ دان بالجهل أو قَبِلَ الرسوخ فما    ..... تُلْفِـيهِ إلا عــدوّاً للمُحِقِّينا
يشئ العلوم ويلقي أهلها حسداً    .... ضاهى بذلك أعداء النبيِّينا
وصدق الثوري؛ فقد أخرج الخطيب في «الجامع» (707) عنه: «تحب الرئاسة! تهيّأ للنِّطاح».
قال أبو عبيدة : بَلَوْتُ كثيراً من المرموقين في زماننا هذا، فوجدت هذا الداء متمكّناً فيهم، أسأل الله أن يعافيني منه، وتبرهنَ لي من خلال ما شاهدت وعلمت صدقَ مقولة إسحاق بن خلف: «والله الذي لا إلاله إلا هو؛ لإزالة الجبال الرواسي أيسر من إزالة الرئاسة».
ولا خلاص ممن تمكن منه هذا الداء إلا الإخلاص لله، وهضم النفس على عادة السلف.
حبُّ الرياسة داءٌ لا دواء لَهُ  ...  وقلّ ما تجد الرّاضين بالقَسْم
وأصغِ -أُخيّ!- إلى ما قلتُ؛ ففيه حقٌّ وعدلٌ، وتأمل أبيات بشر بن المعتمر:
إن كنتَ تعلم ما أقول  ....   وما تقول فأنت عالمْ
أو كنتَ تجهل ذا وذا    ..... ك فكـن لأهل العلم لازمْ
أهلُ الرياسة مَنْ يُنا   ...... زِعُــهُمْ رياسَتَـهُمْ فظـالِـمْ
لا تطلـبنَّ رياســةً   ..... بالجهـل أنـت لهـا مخـاصـمْ
لولا مقامُهمُ رأيـ ...... ـت الدين مضطرب الدعائمْ
 وقال منصور الفقيه:
الكلب أكرم عشرةٍ   ..... وهـو النهايـة في الخـساسـةْ
ممن تعـرض للـريا  ..... ســة قـبـل إبّــان الريـاسـةْ
وأسنــد الخطيب في «الجــامــع» (711)، وابن الجوزي في «تعظيم الفتيا» (رقم59- بتحقيقي) بسنديهما إلى يزيد بن هارون قال: «من طلب الرِّئاسة في غير أوانها؛ حرمه الله إياها في أوانها».
وليعلم المؤمن أنَّ الرِّئاسة على الحقيقة: هي تقوى الله -عز وجل-! وقد قيل للإمام أحمد -رحمه الله-: إن معروفاً الكرخي قليل العلم، فقال: «وهل يراد العلم إلا لما وصل إليه معروف؟»، أسنده ابن الجوزي في «مناقب معروف» (ص86-87).
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.