وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ - جمعية مركز الإمام الألباني للدراسات والأبحاث

وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ

  • علي حسن الحلبي
  • 11/08/2018
  • 1091

مِن أرفع مقاصد الشرعِ وأعلاها: مقصد حفظ النَّفس؛ لأنَّ به قِوَامَ الحياة الإسلامية الحقَّة، حِرصاً على المسلمين، وصيانةً لحياتهم.
وانطلاقاً من هذا الأصل الراسخ؛ جاءَ هذا النَّصُّ القرآنيُّ الواضحُ الصريحُ، لينهى المسلمَ  عن قتل نفسِه، ولو كان ذلك -منه- تحت أيِّ شِعار، أو وصولاً إلى أيّة غايةٍ؛ لأنَّ الشَّرعَ نبيلٌ، وغاياتُهُ -مثله- نُبلاً، ورفعةً؛ ولا يقولُ المسلمُ ما يقولُه - أو يفعله- غيرُ المسلم: «الغاية (تبرّر) الوسيلة»!!
قال العّلامة المفسّر أبو محمد ابن عطيّة الأندلسيّ (المتوفى سنة 546هـ) في «المحرّر الوجيز» (4/64): «أجمع المتأوّلون أنّ المقصود بهذه الآية: النّهي عن أن يقتل بعض الناس بعضاً، ثم لفظها يتناول أن يقتلَ الرجل نفسه بقصدٍ منه للقتل، أو بأنْ يحملها على غَرَرٍ ربما مات منه؛ فهذا كلُّه يتناوله النهيُ.
وقد احتجّ عَمْرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء الباردِ خوفاً على نفسه منه، فقرّر رسوله الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه».
قلتُ: يُشير -رحمه الله- إلى حديث عَمرو بن العاص -رضي الله عنه- لمّا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ ذات السَّلاسل-، قال: فاحتلمت في ليلة باردةٍ شديدة البرد، فأشفقت -إنِ اغتسلت- أنْ أهلِك، فتيمّمتُ، ثم صلّيت بأصحابي صلاةَ الصبح، قال: فلمّا قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذكرتُ ذلك له، فقال: «يا عمرو! صلّيت بأصحابك وأنت جُنُبٌ؟!»، قال: قلتُ: نعم، يا رسولَ اللهِ! إني احتلمت في ليلةٍ باردةٍ شديدةِ البرد، فأشفقت -إنِ اغتسلت- أن أهلِك، وذكرتُ قولَ اللهِ -عزَّ وجلَّ-: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}، فتيمّمت، ثم صلّيت.
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئاً.
وقد علّق الإمام البخاريُّ في «صحيحه» الحديث (1/454 – الفتح)، ووصلـه أحـمد (4/203)، وأبــو داود (334)، والدارقطني (1/178)، وقوّاه الحافظ ابن حجر في «الفتح» (1/454).
قلتُ: فهذا الاستدلالُ العلميُّ -مِن هذا الصحابيِّ الجليل- يَردُّ قولَ مَن حَصَرَ معنى الآية الكريمةَ بالقتلِ على سبيل اليأْس من الحياةِ؛ انتحاراً، وتخلُّصاً!!!
فهذا حَصْرٌ لا وجه له، والعمومُ هو الأصلُ، وبخاصّةٍ مع تأيُّده بهذا الفهم السلفيِّ العزيز . .
ونقـل الشهاب الآلوسي المتوفى سنة (1270هـ) من معاني الآيةِ قولَ مَن قال: «المعنى: لا تُخاطروا بنفوسكم في القتال؛ فتقاتلوا مَن لا تُطيقونه».
قلتُ: وهذا المعنى يلتقي -تماماً- الأصلَ المتقدّمَ ذِكرُهُ من مقاصد الشرع الحنيف بحـفظ النفس؛ فـإنَّ مِن صُـورهِ -ولا بُدّ- «سدّ الذرائع المؤدّية إلى قتل النفس»(1)، «بل قد حَرَّمَ [الشرع] ما هو أقلّ من ذلك؛ مِنَ الشتم والسبّ؛ لإفضائه إلى العداوة المفضية إلى المقاتلة»(2).
وخُلاصة القول: أنَّ الإسلام العظيم -بكلام الله -تعالى-، وحديث رسولهِ صلى الله عليه وسلم-: حازمٌ حاسمٌ في هذا الأصل الأصيل، وليس ثمّةَ دليلٌ، ولا شبهة دليل يعكّر على الأصل عمومَه، ولا ينقض عليه شمولَه . . وما تُوُهِّم فيه عكسُ ذلك؛ فهو -حقيقةً، وعند التأمُّل- غيرُ ذلك . . .