الفرق بين الصغيرة والكبيرة وبيان الآثار المترتبة على ذلك - جمعية مركز الإمام الألباني للدراسات والأبحاث

الفرق بين الصغيرة والكبيرة وبيان الآثار المترتبة على ذلك

  • مشهور حسن آل سلمان
  • 25/06/2018
  • 11871

الكلام في الفرق بين الصغيرة والكبيرة متشعِّب، وبحرٌ مُتلاطم، وهو مَحلُّ اختلافِ وجهاتِ نَظَرِ العلماء قديماً وحديثاً، وصنَّف في ذلك جمعٌ منهم.
وأحصر هذا المبحث في النقاط التالية:
* أدلةُ التفريق بين الكبيرة والصغيرة.
* توجيهُ كلام القائمين بعدمِ الفَرْق.
* علاماتُ معرفة الكبيرة.
* كلامُ جامعٌ للعلماء في التفريق.
* معرفة الآثار المترتبة على الكبيرة.
* هل يمكن معرفةُ الكبيرة بالاستنباط دونَ النّص؟
فنقول وبالله -سبحانه- الاستعانة:
لا شكَّ أنّ تقسيم الذنوب في الشريعة إلى كبائر وصغائرَ تتفقُ مع واقعية الشريعة وطبيعتها، فالأفعالُ ليست على رتبةٍ واحدةٍ، ولذا تَمايز الناس في الصلاح والفساد، كتمايز أهل الصلاح فيما بينهم، فهم ليسوا سواءً، وكذلك أهلُ الفساد فيما بينهم(1).
وجاءت النصوص في الكتاب والسنة الصحيحة والآثار السلفية في التفريق بين (الكبيرة) و (الصغيرة)، من ذلك:
أولاً: قوله -تعالى-: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } ، قال الطوفي: «فيه انقسامُ السيئات إلى كبائر وصغائر، وإنَّ اجتنابَ جميع الكبائر مكفرٌ لجميع الصغائر»(2)، وقال:
«وتكفيرُ الصغائر باجتناب الكبائر مناسبٌ عرفاً وشرعاً»(3).
ثانياً: قولـه -تعالى-: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}  وأكثرُ المفسرين على أن اللّمم: صغائر الذنوب(4)، فنصَّت الآية بعبارتها على التفريق(5)، ولذا قال السفاريني بعدَ أن أورد هاتين الآيتين: «فالصحيح التقسيم»(6).
ووردت أحاديثُ صحيحةٌ كثيرةٌ ترتَّب عليها معتقدٌ لأهل السنة في هذا الباب؛ من مثل:
«الصلوات الخمسُ، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفراتُ ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر».
و«ما مِن مسلم تحضُره صلاةٌ مكتوبة، فيحسن وضوءَها وركوعها وسجودها؛ إلا كانت له كفارة لما مضى من الذنوب ما لم يأت الكبائر»(7).
فبناءً على هذين الحديثين -وغيرهما كثير- قرر أهل السنة أنّ الطاعات تكفّر الصّغائر(8)، وما عداها من الذنوب فأمرها إلى الله -عز وجل-، والواجب على صاحبها التوبة منها، وأنّ الله يغفرها دون الشرك.
قال البيهقي -رحمه الله-: «ففي هذه الأخبار وما جانسها من التغليظ في الكبائر والتكفير عن الصغائر ما يؤكد قول مَن فرّق بينهما»(9).
وقد يُفهَمً من هذا: أنّ هناك مَن لم يفرق بين (الصغائر) و(الكبائر)، وهذا واقع بلا دافع، ولكنّ الخلاف فيه لفظي لا حقيقي، وإليك البيان بإيجاز:
ذهب بعض العلماء(10) إلى كراهية تسمية معصية الله صغيرة؛ نظراُ إلى عظمة الله -تعالى-، وشدة عقابه، وإجلالاً له -عز وجل- عن تسمية معصيته صغيرة؛ وأنها بالنظر إلى عظمته كبيرةٌ أيُّ كبيرة.
وبناءً عليه؛ قرروا أنّ جميع الذّنوب كبائر، وتسمية بعضها صغائر، هو بإضافتها إلى ما هو أكبر منها.
وهذا الاختلاف إنما هو في التسمية فقط، لكن جميع العلماء مجمعون على أنّ المعاصي منها ما يقدح في العدالة، ومنها ما لا يقدح، فسموا ما يقدح بها كبيرة، وما لا يقدح صغيرة(11).
قال الزركشي -بعد أن نقل الاختلاف في تقسيم الذنوب، وخَتَمَها بمن عدها جميعاً كبائر-: «والظاهر أنّ الخلاف لفظي، فإن رتبة الكبائر تتفاوت قطعاً»(12)، ثم قال -رحمه الله تعالى-:
«إذا قلنا بالمشهور فاختلفوا في الكبيرة، هل تُعرفُ بالحد أو بالعد؟ على وجهين، وبالأول قال الجمهور، واختلفوا على أوجه(13):
قيل: المعصية الموجبة للحد. وقيل: ما لحق صاحبَها وعيدٌ شديد. وقيل: ما تُؤذِنُ بقلة اكتراث مرتكبها بالدِّين ورقَّة الديانة. قاله إمام الحرمين(14). وقيل: ما نصَّ الكتابُ على تحريمه، أو وجب في جنسه حدٌّ، والظاهر أنّ كل قائل ذكر بعض أفرادها، ويجمع الكبائرَ جميعُ ذلك(15)، والقائلون بالعدّ اختلفوا في أنها هل تنحصر؟ فقيل: تنحصر، واختلفوا: فقيل: معينة.
وقال الواحدي في «البسيط»(16): الصحيح أنّه ليس للكبائر حدٌّ يعرفهُ العباد(17)، وتتميز به عن الصغائر تمييز إشارة، ولو عُرف ذلك لكانت الصغائرُ مباحةً، ولكنّ الله -تعالى- أخفى ذلك على العباد ليجتهد كلُّ واحد في اجتناب ما نُهيَ عنه، رجاءَ أن يكونَ مجتنباً للكبائر، ونظيرُه إخفاء الصلاة في الصلوات، وليلة القدر في رمضان. اهـ.
ثم قيل: هي سبعة. وقيل: أربعة عشر. وقال ابن عباس: «هي إلى السبعين أقربُ منها إلى السبع». والصحيح أنها لا تنحصر، إذ لا يؤخذ ذلك إلا من السمع ولم يرِد فيه حصرُها، وقد أنهاها الحافظ الذهبي في «جزء» صنَّفه إلى السبعين.
ومن المنصوص عليه: القتل، والزنا، واللوط، وشرب الخمر، ومطلق السكر، والسرقة، والغصب، والقذف، والنميمة، وشهادة الزور، واليمين الفاجرة، وقطيعة الرحم، والعقوق، والفرار، ومال اليتيم، وخيانة الكيل، والوزن، وتقديم الصلاة، وتأخيرها، والكذب على محمد صلى الله عليه وسلم ، وضرب المسلم، وسب الصحابة، وكتمان الشهادة، والرشوة، والدياثة -وهي: القيادة على أهله-، والقيادة على أجنبي، والسعاية عند السلطان، ومنع الزكاة، واليأس من رحمة الله، وأمن المكر، والظهار، وأكل لحم الخنزير، والميتة، وفطر رمضان، والغلول، والمحاربة، والسحر، والربا، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونسيان القرآن بعد حفظه، وإحراق الحيوان بالنار، وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب.
وتوقف الرافعي(18) في «ترك الأمر» وما بعده، ونقل عن صاحب «العُدّة» جعْلَ الغيبةِ من الصغائر، وهو يخالف نصَّ الشافعي، كيف وهي أخت النميمة! وقد روى الطبرانيُّ(19) حديث المعذَبيْن في قبريهما، فذكر (الغيبة) بدل (النّميمة)، ومنها إدمان الصغيرة»، ثم قال:
«أن الإصرار(20) على الصغائر حكمه حكم مرتكب الكبيرة الواحدة على المشهور، وقال أبو طالب القضاعي في كتاب «تحرير المقال في موازنة الأعمال»(21):إن الإصرار حكمه حكم ما أصر به عليه، فالإصرار على الصغيرة صغيرة، قال: وقد جرى على ألسنة الصوفية(22): وربما يُروى حديثاً، ولا يصح.
والإصرار يكون باعتبارين؛ أحدهما: حُكميّ؛ وهو: العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها، فهذا حكمه حكم من كررها فعلاً، بخلاف التائب منها، فلو ذهل من ذلك ولم يعزم على شيء فهذا هو الذي تكفره العمال الصالحة من الوضوء والصلاة والجمعة والصيام، كما دل عليه الأحاديث»(23).
قال أبو عبيدة: لي هنا ملاحظات:
الأولى: معرفة الكبيرة بالحد أقعد، والأثر -على وجهٍ يأتي- أضبط، قال الرافعي حول التفريق بالقول بأن الكبيرة ما يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة: «أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر»، وعن القول: إن الكبيرة هي المعصية الموجبة للحد: «وهو إلى ترجيحه أميل».
ومع هذا، فلم يرتضِ العلائي هذه الفروق، فقال بعد أن نقل جملة من النصوص فيها التنصيص على بعض الكبائر، ثم تعرّض للأقوال المذكورة قائلاً:
«قلت: وفي كل منها نظر؛ لأنّ كلاً منها حد الكبيرة من حيث هي، وفيما تقدم من الأحاديث خصال ليست في واحد منها، لا سيما على الوجه الأول الذي اعتبر فيها شرعية الحدّ»(24).
قال أبو عبيدة: وهذا يلتقي كلاماً جيّداً مطولاً للصنعاني، سيأتي، والله الموفّق.
الثانية: ما ورد عن السلف في العدّ لا مفهوم له، مثل ما ورد عن ابن مسعود: «أكبر الكبائر أربعة . . .»، وعن ابن عمر: «سبع»(25)، وفي رواية: «تسع»، حتى قال ابن عباس: «هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع»، وليس هذا محل حصر بسبعين، وإنما هو الذي سنح له بباله أو تقديره حينئذ(26).
وقد توسع ابن حجر الهيتمي في «الزواجر» في ذكر (الكبائر)، وقد انتقده بعض المحققين من العلماء، فقال محمد بن إسماعيل الصنعاني -رحمه الله- بعد كلام: هذا، ولقد صنّف ابن حجر الهيتمي كتابه «الزواجر»، وكثّر من الكبائر، حتى بلغت ثلاث مئة، ولكن جلُّها ما لا شاهد له من كتاب ولا سنة، وإنما هو مأخوذ من النهي عن كذا، وفيه: من فعل كذا . . .، إلى غير ذلك مما يُحيِّرُ مَن نظَرَ فيه»(27).
قال أبو عبيدة: وسبقه إلى نحوه العلامة الشيخ صالح المَقْبَليّ في ذيل كتابه النافع الماتع «العلم الشامخ في إيثار الحقّ على الآباء والمشايخ»، المسمى: «الأرواح النوافح»(28)، وهذا نصُّ كلامه فيه -منتقِداً إيّاه-:
«وقد صنّف ابن حجر الهيتمي كتاباً في الكبائر، سماه«الزواجر»، فجاء بما لا يشهد له كتاب ولا سنة، ولا قلّد فيه أحداً، حتى يكون كعلومه الأخر، ولا ينبغي أن يُذكر مثل ذلك إلا إيقاظاً، والرجل ممن يتكلم كيف شاء، ثم حظي في متأخري الشافعية(29)».
وقد أحسن المَقْبلي -رحمه الله- في إهمال عدّ الكبائر عند الهيتمي، إذ أوصلها في كتابه -كما في المطبوع منه- إلى أربع مئة وسبع وستين كبيرة، وليس ثلاث مئة، كما قال الصنعاني، والله الموفق.
الثالثة: أما قول الزركشي السابق: «وقد أنهاها الحافظ الذهبي في جزء صنفه إلى سبعين»، وقول ابن كثير: «وقد صنف الناس في الكبائر مصنفات، ومنها: ما جمعه شيخنا الحافظ أبو عبدالله الذهبي الذي بلغ نحواً من سبعين كبيرة»(30)، فالأمر -أيضا- ليس على سبيل الحصر، إذ ذكر الذهبي -بالعدّ- في آخر ما ذكر: (الكبيرة السادسة والسبعين: من جَسَّ على المسلمين، ودلّ على عوراتهم)، ثم قال بعدها:
«فصل جامع لما يحتمل أنه من الكبائر»، وأورد تحته أحاديث عديدة، بلغت (تسعة وأربعين) حديثاً، اشتملت على نحو نصفِ عدَدِها مما قد يقال: إنه كبيرة.

الرابعة: كلام العلماء متشعّب في ضوابط الكبيرة، والخلاف الواقع فيه واسع عند المتأخرين، قريب عند السلف الصالحين، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ((وأما الكبائر؛ فاختلف السّلفً فيها اختلافاً لا يرجع إلى تبايُنٍ وتضاد، وأقوالهم متقاربة))(31).
قال أبو عبيدة: نعم، أقوالهم متقاربة؛ إذ فيها تعداد لمفرداتها، دون وجود ضابط يميز بينها وبين الصغائر، إذ مداره على الاجتهاد، وفي بعض المفردات خلاف، فكلٌّ نَظَرَ إلى إدخال شيء، أو إخراجه(32)، فاختلف الضابط عند المتأخرين اختلافاً شديداً.
وهذه كلماتٌ جامعة في ذلك؛ نسوقها على طولها، وعلى شيء من تكرار فيها.
قال الذهبي في أول كتابه ((الكبائر)) (33) في ضابط التفريق:
((والذي يتّجه، ويقوم عليه الدليل:أنّ من ارتكب حوباً من هذه العظائم: مما فيه حدّ في الدنيا، كالقتل والزنا والسرقة، أو فيه وعيد في الآخرة، من عذابٍ وغضبٍ وتهديدٍ، أو لُعن فاعلُه على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كبيرةٌ ولا بُدّ)) .
قلت: وهذا هو الشائع عند الكثرين(34)، وهذه طائفة من نقولاتهم:
قال عبدالكريم بن محمد الرافعي -رحمه الله تعالى-:
((ذكر القاضي أبو سعْدٍ الهروي(35) -رحمه الله- أن الكبيرة: كلُّ فعلٍ نصَّ الكتابُ على تحريمه، وكلُّ معصية توجبُ في جنسها حدّاً من حبسٍ أو غيره، وترك فريضة مأمور بها على الفور، والكذب في الشهادةِ والروايةِ واليمينِ، هذا ما ذكره على سبيل الضبطّ.
وفصَّل القاضي الرويانيُّ، فقال: الكبائرُ سبعٌ: قتل النفس بغير الحق، والزنا، واللواط، وشرب الخمر، والسرقة، وأخذُ المال غصباً، والقذفُ، وشربُ كُلِّ مسكرٍ ملحقٍ بشرب الخمر، ولا فرق بين القدر المسكر واليسير الذي لا يُسكرِ.
قال أبو سعيد: وفي الشرب من غير الخمر خلافٌ، إذا كان الرجل شافعياً، وشرط في غصب المال أن يبلغ ديناراً، وضم في ((الشامل)) إلى السبع المذكور: شهادة الزور، وأضاف إليها صاحبُ ((العُدّة)): أكلَ الرِّبا، والإفطارَ في رمضان بلا عذر، واليمينَ الفاجرة، وقطع الرحم، وعقوقَ الوالدين، والفرار مِن الزحف، وأكلَ مال اليتيم، والخيانة في الكيل، والوزن، وتقديمَ الصلاة على وقتها، وتأخيرَها عن وقتها بلا عذر، وضربَ المسلم(36) بغير حق، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم عمداً، وسبَّ الصحابة -رضي الله عنهم-، وكتمانَ الشهادة بغير عذر، وأخذَ الرشوة، والدِّياثةَ، والقيادةَ بين الرجال والنساء، والسعاية عند السلطان، ومنعَ الزكاة، وتركَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة، ونسيانَ القرآن بعدَ تعلمه، وإحراق الحيوان بالنار، وامتناعَ المرأة من زوجها بلا سبب، واليأسَ من رحمة الله -تعالى-، والأمنَ من مكره، ويقال: الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن، ومما يُعدُّ من الكبائر: الظهارُ، وأكلُ لحم الخنزير والميتةِ من غير ضرورة. وللتوقف مجالٌ في بعض هذه الخصال؛ كقطع الرحم، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إطلاقها، ونسيان القرآن، وإحراق مطلق الحيوان بالنار، وقد أشار صاحب الكتاب في ((الإحياء)) إلى مثل هذا التوقُّف، وفي ((التهذيب)) (37) حكايةُ وجهٍ: أنّ تركَ الصلاةِ الواحدةِ إلى أن يخرج وقتُها ليس بكبيرة، وإنّما تُردّ الشهادة به إذا اعتاده)) (38).
وقال النووي -رحمه الله- في ((شرح صحيح مسلم)) (39):
((وقد اختلف العلماء في حد الكبيرة، وتمييزها من الصغيرة، فجاء عن ابن عباس -رضى الله عنهما-: كل شيء نهى الله عنه فهو كبيرة، وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايينى الفقيهُ الشافعي الإمامُ فيِ علم الأصول والفقه، وغيره، وحكى القاضي عياضٌ(40) -رحمه الله- هذا المذهب عن المحققين، واحتج القائلون بهذا أنَّ كلَّ نهيٍ بالنسبة إلى جلال الله -تعالى- كبيرةٌ، وذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى صغائرَ وكبائرَ، وهو مرويٌّ -أيضاً- عن ابن عباس -رضى الله عنهما-، وقد تظاهر على ذلك دلائلً من الكتابِ والسنة واستعمال سلف الأمة وخلفها، قال الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه ((البسيط في المذهب)): إنكارُ الفَرْقِ بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقه، وقد فُهِما من مداركِ الشرع، وهذا الذي قاله أبو حامد قد قاله غيره بمعناه، ولا شكَّ في كون المخالفة قبيحة جدّاً بالنسبة إلى جلال الله -تعالى-، ولكن بعضها أعظمُ من بعض، وتنقسم باعتبار ذلك إلى ما تكفِّره الصلوات، أو صوم رمضان، أو الحجُّ أو العمرةُ، أو الوضوءُ، أو صومُ عرفةَ، أو صومُ عاشوراءَ، أو فعلُ الحسنةِ، أو غيرُ ذلك مما جاءت به الأحاديثُ الصحيحة، وإلى ما لا يكفِّره ذلك كما ثبت في ((الصحيح)): ((ما لم يَغْشَ كبيرَةً)) (41)، فسمى الشرعُ ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر، وما لا تكفره كبائرَ، ولا شك في حُسْن هذا، ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله -تعالى- فإنها صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها؛ لكونها أقل قبحاً، ولكونها متيسرة التكفير، والله أعلم.
وإذا ثبت انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، فقد اختلفوا في ضبطها اختلافاً كثيراً منتشراً جدّاً، فروي عن ابن عباس -رضى الله عنهما- أنه قال: الكبائر: كلُّ ذنب ختمه اللهُ -تعالى- بنَارٍ، أو غضبٍ، أو لعنةٍ، أو عذاب(42).
ونحوُ هذا عن الحسن البصري(43).
وقال آخرون: هي ما أوعدَ اللهُ عليه بنارٍ أوحدٍّ في الدنيا.
وقال أبو حامد الغزالي في ((البسيط)): والضابط الشامل المعنوي في ضبط الكبيرة: أنّ كلَّ معصية يقدّم المرءُ عليها استشعار خوفٍ وحذارِ ندمٍ، كالمتهاون بارتكابها والمتجرئ عليه اعتياداً، فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة، وما يحملُ على فلتاتِ النفس أو اللسان وفترةِ مراقبة التقوى ولا ينفك عن تَنَدُّمٍ، يمتزج به تنغيصُ التلذُّذ بالمعصية، فهذا لا يمنع العدالة وليس هو بكبيرة(44).
وقال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح -رحمه الله- في ((فتاويه)) (45):
الكبيرة: كل ذنب كَبُر وعظُم عِظَماً يصحُّ معه أن يطلق عليه اسم الكبيرة، ووصف بكونه عظيماً على الإطلاق.
قال: فهذا حدُّ الكبيرة، ثم لها أَماراتٌ؛ منها: إيجابُ الحدِّ، ومنها: الإيعادُ عليها بالعذابِ بالنارِ ونحوها في الكتاب أو السنة، ومنها: وصفُ فاعِلِها بالفسق نصّاً، ومنها: اللعن؛ كلعن الله -سبحانه وتعالى- من غيَّر منار الأرض(46).
وقال الشيخ الإمام أبو محمد بن عبد السلام -رحمه الله- في كتابه ((القواعد)) (47): إذا أردتَ معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة؛ فاعرضْ مفسدةَ الذنبِ على مفاسد الكبائر المنصوص عليه، فإن نقصت عن أقلِّ مفاسد الكبائر فهي من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر، أو رَبَتْ عليه فهي مـن الكبائـر، فمن شتم الـرب -سبحانه وتعالى- أو رسولَه صلى الله عليه وسلم ، أو استهانَ بالرسل، أو كذَّب واحداً منهم، أو ضمَّخَ الكعبة بالعَذِرة، أو ألقى المصحفَ في القاذورات، فهي من أكبر الكبائر، ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة، وكذلك لو أمسكَ امرأةً محصنة لمن يزني بها، أو أمسك مسلماً لمن يقتله، فلا شك أنّ مفسدةَ ذلك أعظمُ من مفسدة أكل مال اليتيم، مع كونه من الكبائر، وكذلك لو دلَّ الكفارَ على عورات المسلمين، مع علمه أنهم يُستأصَلُون بدلالته، ويسْبُون حرمهم وأطفالهم، ويغنمون أموالهم، فإن نسبته إلى هذه المفاسد أعظم من تولّيه يوم الزحف بغير عذر، مع كونه من الكبائر، وكذلك لو كذب على إنسان كذباً يعلم أنه يُقتل بسببه، أما إذا كذب عليه كذباً يؤخذ منه بسببه تمرة فليس كذبه من الكبائر، قال: وقد نص الشرع على أنّ شهادةَ الزور وأكلَ مال اليتيم من الكبائر، فإن وقعا في مال خطير فهذا ظاهر، وأن وقعا في مال حقير فيجوز أن يُجعلا من الكبائر؛ فطاماً عن هذه المفاسد، كما جعلَ شربَ قطرةٍ من خمر من الكبائر، وإن لم تتحقق المفسدة، ويجوز أن يضبط ذلك بنصاب السرقة، قال: والحكم بغير الحق كبيرة، فإنَّ شاهد الزور متسبِّب، والحاكم مباشر، فإذا جعل السببَ كبيرةً فالمُبَاشرةُ أولى.
قال: وقد ضبط بعضُ العلماء الكبائرَ بأنها كلُّ ذنب قُرِن به وعيدٌ أو حد أو لعن، فعلى هذا: كل ذنب عُلم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به الوعيد أو الحدّ أو اللعن أو أكثر من مفسدته فهو كبيرة.
ثم قال:
والأولى أن تضبط الكبيرة بما يُشعِر بتهاون مرتكبها في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها، والله أعلم. هذا آخر كلام الشيخ أبي محمد بن عبد السلام(48) -رحمه الله-)).
قال أبو عبيدة: للصَّنعاني كلام مطوّل يخرج عمّا مضى في التفريق، وفي آخره تعقُّبٌ معتبرٌ لكلامِ العزّ، وهذا نصُّه مع تصرف:
((فاختلفوا في ذلك: فمنهم من قال: الكبيرة هي ما يُشعِر بأن مُرتكبها قليل الاكتراث بالدِّين.
ومنهم مَن قال: هي ما توعّد عليها الشّارع بخصوصها.
ومنهم من قال: هي كلُّ ذنبٍ قُرن به وعيدٌ أو لعن أو حدٌّ فهو من الكبائر.
ومنهم من قال: هي ما نصّ عليها الشارعُ.
وقد اختلفت الرواياتُ في عددها . . . ))، وذكر بعض النصوص، ثم قال:
((ومنهم من حدّها بغير ذلك، ومنهم من ذهب إلى أنها أمرٌ نسبيٌّ، وبالجملة؛ فكلُّها حدودٌ تخمينيةٌ لا دليل عليها من كتاب ولا سنة، فإنه لا نصَّ فيهما أن الكبيرة هي كذا، مع ذلك فلم يحصل لهم من تلك الحدود الجزمُ بتعيين صغيرة، بل يقولون: وما عدا ما ذُكر -يعني: مما حدُّوه- مُلتبسٌ، وللمعتزلة حدودٌ -قادت إليها قواعدُهم- عليها إشكالات لسنا بصدد بيانها، بل نقول:
إن الكبر والصغر في اللغة أمران نسبيان، ليس مدلولهما أمراً محدوداً، وخطاب الشارع بلسان العربية ما لم يثبت له عرف، ولم يثبت له عُرف في الكبر والصِّغر فبقيا على معناهما لغةً.
وذكر بعض النصوص من الآيات والأحاديث التي تُفيد تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر، وقال: ((إلى أحاديث جمّة تدل على انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر، وطريقُ الألفاظِ والعقلِ مندوحٌ منها، فما بقي إلا التعين الشرعي(49)، وقد عيّن الشارع في بعض الروايات تسعاً، وفي بعضها سبعاً -أعني بلفظ هذين العددين-، ثم تعيينُهما بالتعداد، وقد عيّن ما فيهما في أحاديث أخرى، وفي التعداد -أيضاً- تبديلُ شيء بشيء، فمنها ما صح ومنها ما ليس بذاك، وليس هذا تكليفاً خاصاً بالكبائر؛ لأنا مأمورون باجتناب جنس العصيان من كبيرة وصغيرة، فيستوي التكليفُ بهذا الاعتبار، وإنما اختلف الحال في الأثر وفي قوة الاهتمام بترك الأعظم، فإذا لم يعيّن الشارع بعض الكبائر لم يلزم من ذلك محذورٌ أصلاً، ويدل لكونهما باقيين على معناهما اللّغوي -أعني: أن الصّغر والكبر نسبيان- ما كَثُر من الأحاديث التي في معنى: ((وإياكم ومحقرات الذنوب؛ فإنهنَّ يجتمعن على الرجل حتى يُهلِكنه)) (50)، ووجه الدلالة: أنّ محقرات الذنوب إن كانت من الكبائر فالواحدة مهلكة فيضيع مقصود الحديث، وإن كانت صغائر فلا يمكن اجتماعها؛ لأنها مغفورة البتة بحسب اجتناب الكبائر، وإن كان مع الإصرار فلا صغيرة(51)مع الإصرار على ما روي، وهو وفق كلام المتكلمين، فيكون معنى قوله -تعالى-: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } [النساء:31] نحو قوله صلى الله عليه وسلم: ((سددوا وقاربوا وأبشروا))(52)، وتكون الحكمة في عدم تمييز الصغائر من الكبائر إرادة اجتناب كل منهما، والتحفظ عن العصيان رأساً بقيد الطاقة البشرية شبيهٌ بالحكمة في إخفاء ليلة القدر في رمضان ليجتهد الناسُ في رمضان في العمل في جميعه، ونظير الحكمة في إخفاء ساعات يوم الجمعة؛ ليهتمّ العامل في عمله كلّ يومه رجاء موافقتها.
فإن قلت: فما وجه تخصيص الكبائر بالزجر في كثير من المواضع والثناء على مجتنبها لو لم يلزم تعينها.
قلت: قد عيّن الشارع شطراً صالحاً منها، ينصرف إليه الزجر والثناء المذكوران، وأيضاً؛ فالمكلّف يعلم أن أدنى إيلام ليس كالقتل مثلاً، والنظرة مثلاً ليست كالفجور ونحو ذلك، فيما عيّن الشارع كِبَره وفيما لم يعيِّنه فيخاف فيما لم يعيّنه أن يكون كبيرةً زيادة خوفٍ فيحذره ويرجو بتركه أنه قد اتصف باجتناب الكبيرة.
فإن قلت: فما حكم ما لم يعيّنه الشارع؟
قلت: تجويز الكِبَر والصِّغَر إذ الحكم بأحدهما هجومٌ بلا دليل بعد انقسام المعاصي إلى أمرين.
فإن قلتَ: هل عيّن الشارع شيئاً من الصغائر؟
قلتُ: لم يصحّ في ذلك ما يقوم به عذر المكلّف في الحكم بالصِّغر ولو صحّ ما منع منه مانعٌ، وقول المعتزلة: إنه إغراءٌ؛ غير صحيح، وأن المقبّح صارف للمؤمن.
فإن قلتَ: قد فسّر اللّمم المفسرون بالنظرة والغمزة والقبلة واللّمم هو الصغيرة.
قلت: ذلك شيءٌ قالوه من قبل أنفسهم، فإن ثبت فيه سندٌ فبها ونعمت، وإلا فلا دليل على التعيين.
فإن قلت: مثلُ قوله صلى الله عليه وسلم: ((الكبائر سبعٌ))، فيه حصرٌ؛ مثل: السباقُ أربعةٌ وغيرها، فيلزم تعيين الصغائر فيما عداها.
قلت: هذا من الحصر الادعائي الذي يراد به المبالغة، فلذا جاء في روايات أُخر تسع، وجاء التعيين في كبائر أُخر -أيضاً-، وزبدة ما ورد في ذلك ... )) وساق جملة من الأحاديث التي وقع التصريح فيها بلفظ (الكبائر)، ثم قال: ((نعم؛ وهذه الأحاديث لها شواهد وروايات متعددة للكثير منها، وثمّة أشياء غيرها لم نذكر أحاديثها إيثاراً للاختصار، وفي بعضها من كلام الصحابة وهو في حكم المرفوع، أو قريب من ذلك، وتعدادها فيما سردناه من الأحاديث وما لم نسرده: الإشراك بالله، قتل النفس بغير حق، عقوق الوالدين المسلمين، الفرار من الزحف، القذف، السحر، أكلُ الربا، أكل مال اليتيم، التعرُّبُ بعد الهجرة، استحلال البيت الحرام، قول الزور، الذين يشترون بعهد الله ثمناً قليلاً، الزّنا، السّرقة، شرب الخمر، اليمين الغموس، استطالة المرء في عرض المسلم، اليأس من روح الله، الأمن من مكر الله، القنوط من رحمة الله، النّهبة، أن يلعن الرجل أبا الرجل وأمّه فيلعن أباه وأمّه، السّبتان بالسّبة، الضِّرار في الوصية، الجمع بين الصلاتين(53)، منع فضل الماء، منع طروق الفحل، ألا يجعل فراق الجماعة، نكثُ الصفقة، أن يقول لصاحبه: اتق الله، فيقول: عليك بنفسك من أنت تأمرني؟! الغلول، منع الزكاة، كتمان الشهادة، ترك الصلاة متعمداً، قطيعة الرحم، ثم ذكر كلام العز بن عبد السلام المتقدم في كلام النووي، وتعقبه بقوله: ((وأقول: لم يفدنا معرفة  الصغيرة، الذي هو عنوان بحثه إلا أنه أحال ذلك على معرفة مفسدةِ أدنى الكبائر، وأدنى الكبائر غير معيّن، وليس لنا قدرٌ في أقلِّ المفاسد نعرف به أدنى الكبائر من أعلاها، وأفادنا بما ساقه من الأمثلة معرفةَ تفاوت الكبائر في ذات بينها، وهو كلامٌ صحيح لكنه لا يُخرِج من الزائدة ما زادت عليه عن كونها كبيرةً، وقد يشهد لذلك التفاوت حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، أنه قال: قلتُ: يا رسول الله! أيُّ الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك))، قال: قلت: ثم أيّ؟ قال: ((أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك)) قال: قلت: ثم أي؟ ((أن تزني بحليلة جارك))، فأنزل الله -تعالى- تصديقها: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا }  [الفرقان:68]، فقد أجاب النبيُّ  صلى الله عليه وسلم، وذكر من كل نوعٍ أعلاه ليطابق جوابه سؤال السائل، فإنه سئل عن أعظم الذنب، فأجاب بما تضمّن ذكر أعظم أنواعها وما هو أعظم كلِّ نوع، فأعظم أنواع الشرك أن يجعل العبد لله ندّاً، وأعظم أنواع القتل أن يقتل ولده خشية أن يشاركه في الطعام والشراب، وأعظم أنواع الزنا أن يزني بحليلة جاره، فإنّ مفسدة الزنا تتضاعف بتضاعف ما انتهكه من الحق، فالزنا بالمرأة التي لها زوج أعظمُ إثماً وعقوبة من التي لا زوج لها؛ إذ فيه انتهاك حرمة الزوج، وإفساد فراشه، وتعليق نسبٍ عليه لم يكن منه، وغير ذلك من أنواع أذاه فهو أعظم إثماً وجرماً من الزنا بغير ذات البعل، فإن كان الجار غائباً في طاعة الله كالصلاة وطلب العلم والجهاد تضاعف الإثم، وإن كان الزاني شيخاً كان أعظم، وهو أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، فإن اقترن بذلك كونه في شهر حرامٍ، أو بلد حرامٍ، أو وقتٍ معظم عند الله، كأوقات الصلاة وأوقات الإجابة، زاد الإثم والعقوبة، وعلى هذا فقس تفاوت العقوبات(54).
وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعظمها الإشراك بالله بجميع أنواعه، ثم القتل بجميع أنواعه، ثم الزنا بجميع أنواعه، وأدمج في الجواب بيان أن الثلاثة في نفسها متفاوتة إلى عظيم وأعظم، فأعظم الشرك جعل النِّدّ لله -تعالى-، ودونه جعل الأصنام شفعاء إليه بعبادتها مقرِّبةً إليه -تعالى- زُلفى، ثم على ذلك حتى ينتهي إلى الشرك الخفيّ وهو الرياء، وعلى هذا تنزيلُ الآخرين، فقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى تفاوت الكبائر في أنفسها وإلى تفاوت أنواعها، ويدل له -أيضاً- حديث البخاريِّ: ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه))، قالوا: يا رسول الله! وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمّه))، فإنه جعل اللعن من أكبر الكبائر بالنسبة إلى سائر أنواع السَّبِّ المطلق للوالدين، فتفاوتُ سبِّ الوالدين بتفاوت أنواعه.
وقد ضبط بعضهم الكبيرة: بأنها ما يجوزُ تعذيبُ صاحبها، ثم أورد على ذلك إشكالاتٍ لم ينقضِ عنها إلا بقوله: ولا أستبعد أن معنى الكبيرة باقٍ على معناه اللغويِّ، وأن معنى الآية {إن تجتنبوا}، ما عدا ما لا يكاد يخلو عنه أحد من المنهيّات التي يكثر عُروضُها وتقل السلامة منها وتقع -أيضاً- على جهة الهفوة والزّلل، ولا يجعلها الإنسان خُلُقاً له، وهي مطابقةٌ لحديث ابن عباس -رضي الله عنه-: ((لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار)).
ثم إن المعاصي بعد ذلك منقسمة؛ منها: ما اقتضت الحكمة أن يُحبط الإيمان وغيره، وهو الشرك، ولذا لا يغفر بالتفضّلِ -أيضاً-، ومنها: ما لا يُحبط نفس الإيمان ويُغفر بالتفضّل ويكثر فعلُه وموجبه في كل حال أو في غالب الأحوال؛ كالقتل وسائر السبع والتسع وغيرها(55).
قال أبو عبيدة:
ومِن أرادإِ الفروق المذكورة، ما حدّه المعتزلة، فقد حدّوا الكبيرة: بأنها ما لا يقابله عملٌ وإن كَبر ولا يسقطها إلا التوبة، وهذا هو الفرق بينها وبين الصغيرة، ولذا يقول بعضهم: أن الكِبر أمرٌ نسبي باعتبار كثرة الثواب وقلّته.
قال العلامة المقبلي: ((هذا كلامٌ قالوه من قبل نفوسهم بغير حجّة منيرة، ولو جرينا على كلامهم لما كان يُنصب لأحد ميزانٌ؛ لأن صاحب الكبيرة    -بزعمهم- تأكلُ كبيرته عمل الأولين، وصاحب الصغائر قد سقطت صغائِره بنفس اجتناب الكبائر مطلقاً، صرحوا بذلك وزعموا أنهم فهموه من الآية، وكان يلزم استحالة استواء الحسنات والسيئات، وقد اعترفوا بذلك، وجاءت به السنّة النبوية، وبأنّ بعضهم يؤمر به إلى النار بالسيئة تبقى، ولا يمكن هذا على زعمهم؛ لأنه لا يمكن أن يقال: لم يبق عليه إلا سيئة واحدة بل ولا يمكن أن يقال: لم يبق عليه إلا مئةُ سيئة أو ألف سيئةٍ أو مئةُ ألف سيئة أو أقل أو أكثر من ذلك، مما هو محدود؛ لأن المفروض أنّ السيئة الكبيرة لا انتهاء لها، وأعجب من هذا قولهم: إنها نسبية؛ لأن الرجل الذي له في الحالة الراهنة حسنةٌ واحدة، وإذا فعل سيئةً واحدةً -أصغر ما يقدَّر-، كانت كبيرة في حقه عندهم، فكيف يقال: إذا عمل حسنة بجنبها أو عشراً أو مئة أو عمل أهل الدنيا، لم تكفرها ولو كانت الحسنة متقدمة عليها لكفّرتها، ولقد قال أبو هاشم وأتباعه: (مسألة فرضية): لو فرض صدورُ كبيرةٍ منصوص على كبرها من نبي، كانت صغيرة لكثرة ثوابه!
 فتدبر أطراف كلامهم وردّ بعضه إلى بعض، يظهر لك تهافته، وليس الفرقان بين الصغيرة والكبيرة، بل وبين الكبيرة التي ليست بشرك وبين الشرك إلا بحكم كل قسم منها، وهو ما قدمناه من عدم غفران الشرك إلا بالتوبة، وغفران الصغائر مطلقاً، ودخول القسم الأوسط في المشيئة.
(فإن قلت): قد أُمرنا باجتناب الكبائر شركاً وغيره، فلا بد أن يتعين كل جزئي ليمكن تجنُّبه، فتتعين في ضمن ذلك الصغائر، فهل هذا ممكن؟ (قلت): قد وهِمتَ بقولك: لا بدّ أن يتعيّن كلُّ جزئيّ، وإنما ذلك لو لم يؤمر باجتناب سائر جزئيات العصيان، لكن الله -سبحانه- أمرنا باجتناب كلّ عصيان، وقال: بعض هذا العصيان شرك شأنه كذا، وبعضهُ صغيرةٌ شأنه كذا، وبعضه وسط شأنه كذا، فتم البيان وقامت الحجّة، وأوضح لنا بعض جزئيات الكبائر من شركٍ وغيره، ورتّب على ذلك تعبداتٍ مخصوصة، وبقي ما عدا تلك التي أوضحها داخلٌ تحت جنس العصيان، يجوز في بعضها أنه كفر، وفي بعضها أنها كبيرة غيرُ كفر، ولا بُعد في تَعَيُّن صغيرةٍ ما إن تحقق الوقوع.
فإذا تحقَّقْتَ كلامنا، وكان فئتك الكتاب والسنّة غير قواعد المتكلمين؛ علمت أنّ هذا من الله، والحمد لله، فإنّ الناس يدورون بدوران ما يقوم به الوقت من حدوثِ مقالة يوطئها شيخٌ قد ابتُلِي بالقَبول فيهم، أو بنصرةِ دولةٍ، أو نحو ذلك، وإن كان ضلالاً بيّناً.
ولقد يقضي العجب مما استقر الآن في متكلمة الأشعرية، أنه لا يجوز على الأنبياء الصغائر، قالوا: ولو سهواً، حتى رأينا السؤالات، هل يكفُرُ من جوّز ذلك؟ فلا يكاد أحدٌ في وطأتهم يقدر على خلافِ ذلك، حتى رَدّوا صرائح الكتاب والسنّة، قال شارح ((القواعد الطوسيّة)) -وهو أشعري، لا إمامي كصاحب الأصل-: { وَعَصَى آدَمُ }؛ أي: بنوه!
 وتخبّط البيضاوي(56)فنسب أولاً تجويز العصيان عليهم إلى الحشوية، ثم قـال مـن جملة تأويله: إن ما وقع لآدم -عليه الصلاة السلام- كمن يأكل السمّ مع الجهل فيقتله، وغير ذلك، وعلى زعمهم هذا تكرمةُ نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، التي من مقدمات المقام المحمود شيء هين، بل لا معنى له، ولم يقل هذه المقالة أحدٌ من الأشاعرة الماضين ولا غيرهم، بل ينسب إلى الرافضة -إن صح-، ولا نطيل في نحو هذا؛ فإنه مخرقةٌ محضة، وإنما أردنا عساك أن تكون بحيث لا يدهمَنّك من دهماتهم عدَدٌ، فإن جلّهم -بل كلهم- رجل، لا والله ولا رجلٌ تام الرجولة، نسأل الله العافية، وهو حسبنا الله نعم الوكيل)) (57).
ثم استطرد في بيان الآثار المترتبة على (حد الكبيرة)، فقال -رحمه الله-: ((أما هذه المسألة التي جرى لها ذكرٌ في غضون البحث، وهي مسألة أن الله يغفر دون الشرك لمن يشاء، فهي جديرة بعدم التطويل لوضوح أمرها؛ فإنها كالمعلوم من ضرورة الدين، وليس مع المعتزلة إلا عمومات يقابلها مثلها، ويقابلها هذه الآية الكريمة، وهي خاصةُ نصٍّ في محل النزاع، ولا عبارة أوضح منها في هذا الغرض، مع أن الله -سبحانه- ذكرها مرتين في سورةٍ واحدة بلا زيادة ولا نقصٍ في المعنى ولا اختلافٍ في اللفظ، بل مجرد تأكيد لفظي، ما ذاك إلا لإبلاغ المراد، ودرء ما تأتي به الأهواءُ بعدُ من المخالفة والتّضادّ، والأحاديث الناصّة على هذا المعنى والتي يؤخذُ منها على جهةِ الإشارة قد أفادت من عرفها معرفةً متوسطةً التواتر المعنويَّ، مع أن العقل يسوِّغ هذا، بل ويرجّحه عند جمهور المعتزلة، وليس لهم حامل على التصميم على هذه المقالة إلا أنّ أسلافهم سبقوا إليها كنظائر كثيرةٍ لهذه المسألة معهم ومع الأشعرية وغيرهم من الفرق، كما لا يشكُّ في ذلك مختبرٌ منصفٌ، ومع هذا فهم يرون مخالفتهم في هذه المسألة أمراً عظيماً، خلا أنهم لم يجزموا بتكفير المخالف ولا تفسيقه، مع جرأتهم في هذا الباب، وما أحسن قول من قال:
يعيبُ القولَ في الإرجاء حتى    ..... يرى بعض الرجاء من الجَرَائِر  
وأعظم من أخي الإرجاء عيباً ....... وعيديٌّ يصرُّ على الكبائر
وهم -أيضاً- يسمّون من يقول بهذه المسألة بالمرجئة(58)؛ ليتوصّلوا بذلك الاعتضاد بالأحاديث الواردة في ذمّ المرجئة، التي لم يصح منها حديثٌ عند المحدثين(59)، والمرجئة إنما هم من يقول: الإيمان قول بلا عمل.
قال في ((الصحاح)) (60): ((أرجأت الأمر: أخرته، يُهمَز ولا يُهمَز، وقرئ: { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ }، و: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} ، فإذا وصفت الرجل به، قلت: رجلٌ مُرْجٍ، وقومٌ مرجئة، والرجاء: الأمل)) انتهى.
والحاصل أن تأخير أهل الصلاةِ عن الوعيد رأساً أو عن القطع بخلودهم سائغٌ للمصطلح، غير أنَّ حمل الحديث يُتبع فيه التفسيرُ النبويُّ لا على اصطلاحٍ متأخر.
وترى المحدثين وسائر القائلين بأن صاحب الكبيرة داخلٌ تحت المشيئة وهم الراجون يردّون على المرجئة ولا يتجشَّمون الفرق بين الراجئ والمرجئ لبُعد ما بينهما، لكنه اصطلاح الوعيديّة على تسمية من قال بالرجاء الذي هو كالمعلوم من ضرورة الدين مرجئاً! ثم جعلوا الحديث مستعملاً على اصطلاحهم المجدّد، وهذا غلطٌ كَثُر وقوعه في مسائل أصوليّة وفرعيّة(61)؛ كمسألة القدر، اصطلح كلٌّ من المعتزلة والأشاعرة على تسمية خصمه بالقدرية، ثم حكموا على الحديث أنه واردٌ على استعمالهم، ومن جُمَل خطاب الشارع على الاصطلاح المجدّد في المسائل الفرعيّة: لفظ النجس والرجس، حتى زعم بعضهم أنّ قوله -تعــالى-:
{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، نص في نجاسة الكافر بالمعنى المستعمل في لسان المفرعين، ومن ذلك لفظ القنوت وغير ذلك، وهي مزلّةٌ كثيراً ما وقع فيها الكمَلةُ، فتنبه لها، وخذها كليّة تنفعك في عدّة موارد.
اعلم أن الوعيدية(62) يتفرع لهم على هذه المسألة (63)جواز لعن أهل الكبائر من دون توقف على دليل خاص ، وكذلك منع الترحم عليهم، ولذا منعوا الترضية عن باغي الصحابة كمعاوية -رضي الله عنه-.
ونحن نقول: هما حكمان شرعيان، فيؤخذان من الأدلة الشرعية، فأما الترحم والترضي وسائر الأدعية لهم فجائزة؛ لأنها من الشفاعة لهم، ولم يرد منع كما في الكفار، بل دخلوا في العمومات؛ مثل قوله -تعالى- حكاية عن نوح -عليه السلام-: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}  ، وعن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} ، وأمر -تعالى- خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم بقوله: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ، وسمى الله البغاة مؤمنين بقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} ، والوصف ثابت لكلّ من اتصف بالإيمان قبل فعله الكبيرة، ولم يخرجوا عنه بدليل، وأمر الله -تعالى- بالدعاء للوالدين ولم يستثن إلا المشركين، فلا وجه لمنع الترضية على البغاة مع تسليم كبره كيف مع منعه، سيّما مع دعوى الشبهة؟! وأما اللعنُ فالأصل منعه؛ لأنه إضرارٌ بالغير، وطلبٌ للإضرار به، ولم يرد جوازه لكلِّ صاحب كبيرة، فلا يجوز ذلك إلا بالتوقيف، وقد ورد إما لعنُ صاحبِ الكبيرة؛ كلعن الله من عَمِلِ عَمَلَ قومِ لوط، وإما لعن من لم يُعلم كِبَرُ معصيته؛ فكلعن الله الواصلة والمستوصلة ونحو ذلك، فيجوز لعن صاحب تلك المعصية مُعيّناً وغير معيّن، لا كما زعمه متفقهةٌ من الشافعية وسيأتي، ومع جواز لعنه يترحم عليه، واللعن جائز والترحم مندوب إليه.
وظن فقهاء الزيدية أن حكم البابين من ضروريات الدين، نعم هو من ضروريات دين آبائهم، وأما دين محمد صلى الله عليه وسلم فهذا الكتاب والسنّة: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } ، اللهم زدنا هدى واحفظ علينا حق المسلمين والإسلام يا ذا الجلال والإكرام (64).
قال أبو عبيدة: الكلام في أثر الكبيرة على الأعمال طويل، وله ذيول، وينبني عليه استطرادات وتوجيهات للنصوص الشرعية ومناقشاتٌ، والذي نقلناه فيه تحريرٌ وتدقيقٌ، ونَفَسُ فقيه.
بقي ذكر تأصيل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في التفرقة، فله كلام فيه استطراد بديع، مع نقضٍ لبعض الحدود، نذكره بطوله لأهميته، وهذا نص السؤال والجواب:
((وسئل عن الذنوب الكبائر المذكورة في القرآن، والحديث: هل لها حدٌّ تعرف به؟ وهل قول من قال: إنها سبعٌ، أو سبعة عشر، صحيحاً؟ أو قول من قال: إنها ما اتفقت فيها الشرائع -أعني على تحريمها-؟ أو أنها ما تسد باب المعرفة بالله؟ أو أنها ما تُذهِبُ الأموال والأبدان؟ أو أنها إنما سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها؟ أو أنها لا تُعلمُ أصلاً، وأُبهِمَت كليلة القدر؟ أو ما يحكي بعضهم أنّها إلى السبعين أقرب، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، أو أنها ما رُتِّب عليها حدٌّ، أو ما تُوُعّد بالنار؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين. أمثل الأقوال في هذه المسألة: القول المأثور عن ابن عباس، وذكره أبو عبيد، وأحمد بن حنبل، وغيرهما؛ وهو: أن الصغيرة ما دون الحدّين، وحدِّ الآخرة. وهو معنى قول من قال: ما ليس فيها حد في الدنيا، وهو معنى قول القائل: كل ذنبٍ خُتم بلعنة، أو غضب، أو نار، فهو من الكبائر.
ومعنى قول القائل: وليس فيها حدٌّ في الدنيا، ولا وعيد في الآخرة؛ أي: وعيد خاص؛ كالوعيد بالنار، والغضب، واللعنة، وذلك لأن الوعيد الخاصّ في الآخرة، كالعقوبة الخاصة في الدنيا، فكما أنه يُفرّقُ في العقوبات المشروعة المقدّرة بالقطع، والقتل، وجلد مئة، أو ثمانين، وبين العقوبات التي ليست بمقدرة: وهي التعزير، فكذلك يفرَّق في العقوبات التي يعزِّر الله بها العباد -في غير أمر العباد بها- بين العقوبات المقدرة: كالغضب، واللعنة، والنار، وبين العقوبات المطلقة.
وهذا الضابط يَسْلَمُ من القوادح الواردة على غيره، فإنه يدخُلُ كلُّ ما ثبت في النص أنه كبيرة، كالشّرك، والقتل، والزنا، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وغير ذلك من الكبائر التي فيها عقوباتٌ مقدرةٌ مشروعةٌ، وكالفِرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وشهادة الزور؛ فإن هذه الذنوب وأمثالها فيها وعيد خاص، كما قال في الفرار من الزحف: { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} ، وقال: { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } ، وقال: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } ، وقال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وكذلك كلُّ ذنب تُوُعّدَ صاحبه بأنه لا يدخل الجنّة، ولا يشم رائحة الجنّة، وقيل فيه: من فعله فليس منا، وأنّ صاحبه آثمٌ، فهذه كلُّها من الكبائر؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنّة قاطع))، وقوله: ((لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال ذرةٍ من كِبر))، وقوله: ((من غشّنا فليس منّا))، وقوله: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفعُ الناسُ إليها فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)).  
وذلك لأن نفي الإيمان، وكونه ليس من المؤمنين، ليس المراد به ما يقوله المرجئة: إنه ليس من خيارنا؛ فإنه لو ترك ذلك لم يلزم أن يكون من خيارهم، وليس المراد ما يقوله الخوارج: أنه صار كافراً، ولا ما يقوله المعتزلة: من أنه لم يبقى معه من الإيمان شيء، بل هو مستحق للخلود في النار لا يخرج منها، فهذه كلُّها أقوال باطلة، قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع.
ولكنّ المؤمن المطلق في باب الوعد والوعيد، وهو المستحق لدخول الجنّة بلا عقاب: هو المؤدي للفرائض، المجتنبُ المحارمَ، وهؤلاء هم المؤمنون عند الإطلاق، فمن فعل هذه الكبائر لم يكن من هؤلاء المؤمنين، إذ هو متعرض للعقوبة على تلك الكبيرة، وهذا معنى قول من قال: أراد به نفي حقيقة الإيمان، أو نفي كمال الإيمان، فإنهم لم يريدوا نفي الكمال المستحب، فإن نفي الكمال المستحب لا يوجب الذمّ والوعيد، والفقهاء يقولون: الغسل ينقسم إلى: كامل، ومجزئ، ثم من عدل عن الكامل إلى المجزئ لم يكن مذموماً.
فمن أراد بقوله: نفي كمال الإيمان؛ إنه نفي الكمال المستحب، فقد غلط، وهو يشبه قول المرجئة، ولكن يقتضي نفي الكمال الواجب، وهذا مطّرِد في سائر ما نفاه الله ورسوله؛ مثل قوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ، ومثل الحديث المأثور: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له))، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة إلا بأم القرآن)) (65)، وأمثال ذلك؛ فإنه لا ينفي مسمى الاسم إلا لانتفاء بعض ما يجب في ذلك؛ لا لانتفاء بعض مستحباته، فيفيد هذا الكلام أن من فعل ذلك فقد ترك الواجب الذي لا يتم الإيمان الواجب إلا به، وإن كان معه بعض الإيمان، فإن الإيمان يتبعض ويتفاضل، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان)) (66).
 والمقصود هنا: أنّ نفي الإيمان والجنّة، أو كونه من المؤمنين، لا يكون إلا عن كبيرة، أما الصغائر فلا تنفي هذا الاسم والحكم عن صاحبها بمجردها، فيعرف أن هذا النفي لا يكون لترك مستحب، ولا لفعل صغيرة، بل لفعل كبيرة.
وإنما قلنا هذا: إن هذا الضابط أولى من سائر تلك الضوابط المذكورة لوجوه:
أحدها: أنه المأثور عن السلف، بخلاف تلك الضوابط؛ فإنها لا تعرف عن أحد من الصحابة والتابعين والأئمة، وإنما قالها بعض من تكلم في شيء من الكلام أو التصوف بغير دليل شرعي، وأما من قال من السلف: ((إنها إلى سبعين أقرب منها إلى سبع))، فهذا لا يخالف ما ذكرناه، وسنتكلم عليها -إن شاء الله- واحداً واحداً.
الثاني: أن الله قال: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} ، فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات، واستحقاق الوعيد الكريم، وكلُّ من وُعِد بغضب الله أو لعنته، أو نار أو حرمان جنّة، أو ما يقتضي ذلك؛ فإنه خارج عن هذا الوعد، فلا يكون من مجتنبي الكبائر، وكذلك من استحق أن يُقام عليه الحدُّ، لم تكن سيئاته مكفرةً عنه باجتناب الكبائر، إذ لو كان كذلك لم يكن له ذنب يستحق أن يُعاقب عليه، والمستحق أن يقام عليه الحدُّ له ذنب يستحق العقوبة عليه.
الثالث: أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله في الذنوب؛ فهو حد يُتَلقى من خطاب الشارع، وما سوى ذلك ليس مُتَلقى من كلام الله ورسوله، بل هو قول رأي القائل وذوقه من غير دليل شرعي، والرأي والذوق بدون دليل شرعي لا يجوز.
الرابع: أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، وأما تلك الأمور فلا يمكن الفرق بها بين الكبائر والصغائر؛ لأن تلك الصفات لا دليل عليها؛ لأن الفرق بين ما اتفقت عليه الشرائع واختلفت لا يعلم إن لم يمكن وجود عالم بتلك الشرائع على وجهها، وهذا غير معلوم لنا.
وكذلك ما يسد باب المعرفة هو من الأمور النسبية والإضافية، فقد يُسَدُّ باب المعرفة عن زيدٍ ما لا يُسَدُّ عن عمرو، وليس لذلك حدٌّ محدود.
الخامس: أن تلك الأقوال فاسدة، فقول من قال: إنها ما اتفقت الشرائع على تحريمه، دون ما اختلفت فيه، يوجب أن تكون الحبة من مال اليتيم، ومن السرقةِ، والخيانةِ، والكذبةُ الواحدةُ، وبعضُ الإساءات الخفية، ونحو ذلك كبيرةً، وان يكون الفرار من الزحف ليس من الكبائر؛ إذِ الجهاد لم يجب في كل شريعة! وكذلك يقتضي أن يكون التزوج بالمحرمات بالرضاعة والصّهر وغيرهما ليس من الكبائر؛ لأنه مما لم تتفق عليه الشرائع! وكذلك إمساك المرأة بعد الطلاق الثلاث، ووطؤها بعد ذلك، مع اعتقاد التحريم!
وكذلك من قال: إنها ما تسد باب المعرفة، أو ذهاب النفوس والأموال، يوجب أن يكون القليلُ من الغضب والخيانة كبيرة، وأن يكون عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وشربُ الخمر، وأكل الميتة، ولحم الخنزير، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ونحو ذلك ليس من الكبائر!
ومن قال: إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها، وأن ما عُصي الله به فهو كبيرة، فإنه يوجب ألا تكون الذنوب في نفسها تنقسم إلى كبائر و صغائر، وهذا خلاف القرآن، فإن الله قال: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} ، وقال: { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} ، وقال: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } ، وقال: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا }، وقال: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} .
والأحاديث كثيرة في الذنوب الكبائر.
ومن قال: هي سبعةَ عشر، فهو قول بلا دليل.
ومن قال: إنها مبهمة، أو غير معلومة، فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها.
ومن قال: أنه ما تُوُعِّدَ عليه بالنار، قد يقال: إن فيه تقصيراً؛ إذ الوعيد قد يكون بالنار، وقد يكون بغيرها، وقد يقال: إن كل وعيد فلا بد أن يستلزم الوعيد بالنار.
وأما من قال: إنها كل ذنب فيه وعيد، فهذا يندرج فيما ذكره السلف؛ فإن كل ذنب فيه حد في الدنيا ففيه وعيد من غير عكس، فإن الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وقذف المحصنات، ونحو ذلك فيها وعيد، كمن قال: إن الكبيرة ما فيها وعيد، والله أعلم )) (67). انتهى كلامه -رحمه الله-.
قال أبو عبيدة: وما نقله شيخ الإسلام عن الإمام أحمد -رحمه الله- منقول عن سفيان بن عيينة -أيضاً-، قال القاضي أبو يعلى: ((وقد حدّ أحمد -رحمه الله- الكبائر: بما يوجب حدّاً في الدنيا، ووعيداً في الآخرة، فقال في رواية جعفر بن محمد: سمعت سفيان بن عيينة يقول في قوله -تعالى-: {إِلَّا اللَّمَمَ}  
، قال: ما بين حدود الدنيا والآخرة. قال أبو عبدالله: حدود الدنيا؛ مثل السرقة والزنا، وعدَّ أشياء، وحدُّ الآخرة، ما يحدُّ في الآخرة، واللمم: الذي بينهما)) (68).
وقد وظف الشاطبي -تبعاً للعز بن عبدالسلام في ((قواعده))- ما درج عليه العلماء من هذا التقسيم، فقرر في ((الموافقات)) (1/ 338 -بتحقيقي) (المسألة السابعة عشرة) في (النوع الرابع) من (القسم الأول) من (المقاصد) -وهذا كلامه- وهو على التحقيق يلتقي بالجملة ما قدمناه آنفاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وهذا نصه بحروفه:
((المفهوم من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عظم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها، وقد عُلم من الشريعة أن أعظم المصالح جريان الأمور الضرورية الخمسة المعتبرة في كل ملة، وأن أعظم المفاسد ما يَكِرُّ بالإخلال عليها.
والدليل على ذلك ما جاء من الوعيد على الإخلال بها؛ كما في الكفر وقتل النفس وما يرجع إليه، والزنا والسرقة وشرب الخمر وما يرجع إلى ذلك مما وُضِعَ له حدٌّ أو وعيدٌ، بخلاف ما كان راجعاً إلى حاجيٍّ أو تكميلي؛ فإنه لم يختص بوعيدٍ في نفسه، ولا بحدٍّ معلوم يخصّه ؛ فإن كان كذلك فهو راجع إلى أمر ضروريٍّ، والاستقراء يبيّن ذلك؛ فلا حاجة إلى بسط الدليل عليه.
إلا أن المصالح والمفاسد ضربان:
أحدهما: ما به صلاحُ العالَمِ أو فساده؛ كإحياء النفس في المصالح، وقتلها في المفاسد.
الثاني: ما به كمال ذلك الصلاح أو ذلك الفساد، وهذا الثاني ليس في مرتبة واحدة، بل هو على مراتب، وكذلك الأول على مراتب -أيضاً-، فإنا إذا نظرنا إلى الأول وجدنا الدِّين أعظم الأشياء، ولذلك يهمل في جانبه النفس والمال وغيرهما، ثم النفس، ولذلك يهمل في جانبها اعتبار قوام النسل والعقل والمال؛ فيجوز عند طائفة من العلماء لمن أكره بالقتل على الزنا أن يقي نفسه به . . .
ثم إذا نظرنا إلى بيع الغَرَر مثلاً، وجدنا المفسدة في العمل به على مراتب؛ فليس مفسدة بيع حَبَل الحَبَلَةِ كمفسدة بيع الجنين في بطن أمه الحاضرة الآن، ولا بيع الجنين في البطن كبيع الغائب على الصفة وهو ممكن الرؤية من غير مشقة، وكذلك المصالح في التوقي عن هذه الأمور، فعلى هذا إن كانت الطاعة والمخالفة تُنتج من المصالح أو المفاسد أمراً كليّاً ضروريّاً، كانت الطاعة لاحقة بأركان الدين، والمعصية كبيرة من كبائر الذنوب، وإن لم تنتج إلا أمراً جزئياً، فالطاعة لاحقة بالنوافل واللواحق الفضلية، والمعصية صغيرة من الصغائر، وليست الكبيرة في نفسها مع كل ما يعد كبيرة على وزان واحد، ولا كل ركن مع ما يعد ركناً على وزان واحد -أيضاً-، كما أن الجزئيات في الطاعة والمخالفة ليست على وزان واحد، بل لكلِّ منها مرتبة تليق به)).
وقال في ((الاعتصام)) (2/ 374-375  -بتحقيقي) بعد كلام: ((وأقرب وجهٍ يلتمس لهذا المطلب، أن الكبائر منحصرةٌ في الإخلال بالضروريات المعتبرة في كل ملّة؛ وهي: الدين، والنفس (69)والنسل، والعقل، والمال، وكل ما نصّ عليه منها راجع إليها، وما لم ينصَّ عليه جرت في الاعتبار النظري مجراها، وهو الذي يجمع أشتات ما ذكره العلماء وما لم يذكروه مما هو في معناه)).
قال أبو عبيدة: يفيدنا تحقيق الشاطبي السابق، أنه يلحق بـ(الكبيرة) ما كان مفسدته كمفسدة ما قرن به وعيد أو حدّ أو نص أو أكثر منه، فشرب الخمر -مثلاً- كبيرة، وضرر (المخدرات) على متعاطيها أشد ضرر من (الخمر)، فتلحق (المخدرات) بـ(الخمر)، وهكذا.
وعليه؛ فإن معرفة الكبيرة نوعان: منصوصة ومستنبطة.
وصرح القرافي في ((الفروق)) (4/ 1200 -ط. السلام) بذلك، فقال عن المنصوص على أنه كبيرةٌ، أو ما عرف بالضوابط عند العلماء: ((نجعله أصلاً، وننظر: فما ساوى أدناه مفسدةً أو رجح عليها عما ليس فيه نص، ألحقناه به)) (70).
قلت: وبناءً عليه؛ فإن (الشرك الأصغر) عندي بجميع أنواعه من الكبائر (71).
وللمؤرخ نجم الدين أبي السعود محمد بن محمد الغزي العامري الشافعي (977-1061 هـ): ((الدرة المنيرة في شروط الكبيرة))، ذكره المحبي في ((خلاصة الأثر)) (4/ 193)، والبغدادي في ((هدية العارفين)) (2/ 285) و ((إيضاح المكنون)) (1/ 461).
وللحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ): ((الشمس المنيرة في معرفة الكبيرة وتمييزها عن الصغيرة)) سماه السيوطي في ((نظم العقيان)) (ص 47) وابن العماد في ((شذرات الذهب)) (7/ 273) وغيرهما، وأشار إليه في ((فتح الباري)) (12/ 191) بقوله: ((وعلى هذا فينبغي تتبّع ما ورد فيه الوعيد أو اللعن أو الفسق من القرآن أو الأحاديث الصحيحة أو الحسنة ويُضَمُّ إلى ما ورد فيه التنصيص في القرآن والأحاديث الصحاح والحسان على أنه كبيرة، فمهما بلغ مجموع ذلك عرف عنه تحرير عدها، وقد شرعتُ في جمع ذلك، وأسأل الله الإعانة على تحريره -بمنه وكرمه-)).
والحمد لله ربّ العالمين.