نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - جمعية مركز الإمام الألباني للدراسات والأبحاث

نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

  • محمد موسى نصر
  • 11/08/2018
  • 6924

قال الله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}.
يظن بعض الجهلة بتفسير كلام الله أن هذه الآية تنهى المسلم عن ذكر ما من الله به عليه من نعمة أو خص من خير معرضين عن أقوال جماهير المفسرين في بيان المعنى المراد منها ضاربين عرض الحائط بقول الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.
فظن هؤلاء حسداً من عند أنفسهم أن المراد بالآية المنع من التحدث بالنعمة وأن من ذكر شيئاً من الخير وفقه الله إليه يكون مدفوعاً قد قطع لنفسه بالجنة وادعى التقوى والصلاح، والصحيح: أن الصواب ما قاله أئمة التفسير في معنى هذه الآية ومدلولها وإليكم ما قاله المفسرون، قال الطبري في جامع البيان (7/153): وقولـه: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} يقول: جل ثناؤه: فلا تشهدوا لأنفسكم بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصي، وقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}.يقول جل ثناؤه: ربك يا محمد أعلم بمن خاف عقوبة الله فاجتنب معاصيه من عباده.
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره(1): قوله تعالى:  {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}أي تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}. كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}.
وذكر حديثاً صحيحاً تفسيراً الآية لأن التفسير الصحيح أن يكون بالقرآن والسنة وأقوال الصحابة؛ فقال: وقال مسلم في صحيحه: ...عن محمد بن عمرو بن عطاء قال سميت ابنتي برة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم» فقالوا: بم نسميها قال: سموها زينب(2).
وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: مدح رجل رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلك قطعت عنق صاحبك مراراً إذا كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة فليقل: أحسب فلاناً والله حسيبه ولا أزكي على الله أحد – احسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك»(3).
وجاء رجل إلى عثمان -رضي الله عنه- فأثنى عليه في وجهه قال: فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ويقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب(4).
مما تقدم من نصوص قرآنية ونبوية وآثار سلفية يتبين لذي بصر وبصيرة أن أكثر الناس في غفلة وجهالة عن تفسير الآية الحقيقي الذي فهمه السلف الصالح وأن تحدث طالب العلم ببعض ما تفضل الله عليه من فهم واستنباط وتأليف وبحث أن ذلك داخل في تزكية النفس والقطع لها بالصلاح والتقوى والجنة وما علم أمثال أولئك أن ذلك من التحدث بنعمة الله الذي أمر به المسلم والذي درج عليه سلفنا -رضي الله عنهم- والتخليط في هذا الأمر حمل هؤلاء على فهم النصوص على غير مراد الله منها.
وسأنقل للقارئ كلام أهل العلم قديماً وحديثاً وتحدثهم بنعم الله عليهم وهم الأعلم في زمانهم بتفسير كتاب الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أحد الحاقدين الشانئين –وهو بالذم قمين- رداً عليَّ مدعياً مفترياً أنني أزكي نفسي في كتابي «منهج السلامة فيما ورد في الحجامة»: صدر مقدمة الكتاب بالمدح والثناء عليه حيث قال -يعني المؤلف- ولست أول من صنف في الحجامة، فقد سبقني مؤلفون قدماء ومعاصرون ولكن بحثي هذا يفوق –بفضل الله تعالى- كل ما سبق في الوصف والكيف ثم قال بعد ذلك: «أقول لأخي أبي أنس –وهو الذي قرأ القرآن ويقرأه(5)- ألم تقرأ قول الله عز وجل-: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}. فأرجو منك أن تراجع تفسير هذه الآية(6) وبمثيلاتها في كتاب الله عز وجل وتذكر سيرة السلف الصالح حيث كانوا يمدحون كتب غيرهم، ولا يجرون على ألسنتهم سيرة كتبهم ومؤلفاتهم، لأن هذا الأمر متروك للقارئ وليس للمؤلف إلى أن قال: «وإنك لتعلم أن هذا الأمر لم يكن من فعل السلف الصالح لا في كتبهم، ولا في غير كتبهم، وإن حصل من بعضهم إلا أنه لم يجد القبول له، ولا لكتبه عند أهل العلم(7).
أقول –وبالله التوفيق- إن ما قلته لا يفهم منه التزكية لنفسي أو لكتابي- في تقوى أو ورع كما هو مفهوم النهي في الآية- وإنما هو من باب التحدث بنعمة الله –في العلم- وقد أمرنا الله بذلك قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.
وقد سلك هذا المسلك جمع من الأئمة الأعلام والمفسرون الفقهاء والمحدثون وسأكتفي بذكر أربعة منهم؛ لا تستطيع أن تَطعن في سلفيتهم، ولا دينهم، ولا أخلاقهم، وليسوا من المعاصرين لك ليكونوا أنداداً لك، وهؤلاء هم:
أولاً: مكي بن أبي طالب القيسي المقرئ شيخ أبي عمر الداني.
قال -رحمه الله- في كتابه: «الإبانة عن معاني القراءات» (ص19) «هذا كتابٌ أبين فيه -إن شاء الله تعالى- معاني القراءات، وكيفيتها، وما يجب أن يعتقد فيها، مع ما يتصل بذلك من فوائدها، وغرائب معانيها، وما علمتُ أن أحداً تقدمني إلى مثل كتابي هذا، أي: بما جمعت وبينت فيه -أعظم الله عليه الأجر، وأكمل به الذكر، وجعله خالصاً، ولا جعله رياءً ولا سمعة-».
قلت: فهل كان الإمام المقرئ مكي بن أبي طالب القيسي الذي ألف أكثر من مئة كتاب في التفسير والقراءات وغريب اللغة وغير ذلك مزكياً نفسه مخالفاً للسلف ومنهجهم، وعقيدتهم حين قال ذلك؟!!
ثانياً: شيخ الإسلام ابن تيمية قال -رحمه الله- متحدثاً بنعمة الله عليه-: «قد فتح الله عليّ في هذه المرة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء كان كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن»(8).
فهل زكى شيخ الإسلام نفسه حين قال ذلك، وسطر ذلك، وهل جهل قولـه -تعالى-: { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }،  وهو المفسر الذي قرأ أكثر من مئة تفسير، ووعى التفسير، وكان من أكثر أهل العلم اتباعاً للسنة والكتاب.
ثالثاً: ابن قيم الجوزية، قال       -رحمه الله- مادحاً كتابه «زاد المعاد»     -خصوصاً كتاب الطب -منه- (4/413): «قد أتينا على جملة نافعة من أجزاء الطب العلمي والعملي؛ لعل الناظر لا يظفر بكثير منها إلا في هذا الكتاب، وأريناك قرب ما بينها وبين الشريعة».
أقول: هل زكى نفسه، وخالف السلف -هذا الإمام- حين ذكر ذلك؟!
هل أصبح خلفياً صوفياً؛ لأنه ذكر ما خصَّه الله به من علم وبيان، ومعرفة؟!
سبحانك هذا بهتان عظيم.
رابعاً: الإمام الشوكاني المفسّر، والفقيه علامة اليمن:
قال -يرحمه الله- في مقدمة تفسيره- (1/13): «فهذا التفسير، وإن كبر حجمه فقد كثر علمه، وتوفّر من التحقيق قَسْمه، وأصاب غرض الحقّ سهمه، واشتمل على ما في كتب التفاسير من بدائع الفوائد مع زوائد فوائد وقواعد شوارد، فإن أحببتَ أن تعتبر صحة هذا، فهذه كتب التفسير على ظهر البسيطة، انظر تفاسير المعتمدين على الرواية، ثم ارجع إلى تفاسير المعتمدين على الدراية، ثم انظر في هذا التفسير بعد النظرين، فعند ذلك يسفر الصبح لذي عينين، ويتبين ذلك أن هذا الكتاب هو لب اللباب، وعجب العجاب، وذخيرة الطلاب ونهاية مأرب الألباب، وقد سميته «فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير»».
أقول: فهل زكى الشوكاني نفسه -وقطع لها بالجنة- حين سطر هذا الكلام؟!
وهل جهل تفسير الآية وهو المفسر الذي لا يشق له غبار؟!
إن عبارتي لا تخرج عن معنى عبارات هؤلاء الأئمة، وإنا طالب علم اقتفى أثرهم وأنا لهم تبع، وهم أهل الأثر شهد لهم علماؤنا بالأمانة والهداية، والأستقامة، فماذا أنت قائل فيهم وفي أقوالهم، وهل هم سلفيون أم خلفيون { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .